غزّة والتطهير العرقي للكلاب
في تسجيلٍ لأحد جنود الولايات المتحدة السابقين في العراق، وبينما يشرب الخمر ويطلق الضحكات الساخرة المتشنّجة وسط تجمّع من قضبان، سُجنت بها نساء بعد أن تمّ وصل أجسادهن بالتيار الكهربائي، قال: "النساء كنّ المتعة الأكبر. العراقيات تأخذهن في الظلام وتفعل بهن ما تريد.. كنا نعرف أنّ أحدًا لن يحاسبنا".
خلال الحرب على العراق، قتلت القوات الأميركية بدمٍ باردٍ مليون إنسان عراقي، بينما قامت بتعذيب 100 ألف عراقي في سجن أبوغريب حسب منظمة هيومان رايتس ووتش. فإلى أيّ مدى يمكن أن تؤدّي الكراهية إلى استباحة الإنسان؟ ومن أين يأتي الإنسان بالقسوة اللازمة للتفنّن في إيلام شخص آخر؟ وكيف استطاع هذا الجندي في التسجيل أن يتناوب مع زملائه على اغتصاب فتاة عمرها خمسة عشر سنة، ويعرف أنّها قاصر، وتتعذب؟ وكيف يستطيع أن يحكي عن قيامها/ قيامتها، بعدما فرغوا منها لتشنق نفسها على الفور، وهو يضحك؟ يقول بخفة: "لا أعرف. ربما لم تجد في الأمر متعة". ثمّ ينفجرون جميعًا في الضحك.
يفسّر علماء النفس سلوك المعتدي الذي ينخرط في أعمال التعذيب بثنائية تنشأ في حالات الخلاف، وهي "نحن" في مقابل "هم". ذلك الانفصال بين جماعتين يضع فيه المعتدي نفسه على جانب من الثنائية يحمي مصالح المجتمع/ العالم ونظامه من الشر الخالص المتمثّل بالجماعة الأخرى. يضع المعتدي نفسه على جانب النور في مقابل الظلام، تمامًا كما وصف رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الحرب الحالية على قطاع غزّة باعتبارها حرب أبناء النور (إسرائيل) في مقابل أبناء الظلام. والناس على "جانب الظلام" ليسوا بشرًا. هم دائمًا، إمّا "حيوانات بشرية" كما أسماهم وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، أو "برابرة"، "قردة "، "خنازير"، "وحوش "، "همج" أو حتى "فئران"، "قمل"، "صراصير" كما كانت البروباغندا النازية تسمّي اليهود أيام الإبادة. بطبيعة الحال، يصعب التعاطف مع "الصراصير". ومن هنا، تولد المسافة بين المعتدي وضحيته، حيث يتوقف المعتدي عن النظر للضحية باعتبارها بشرًا. وينفتح الباب أمام ممارسة القتل والإيلام والتعذيب والتجويع والحصار. وغالباً ما يلجأ الجاني أيضًا لمناورة إضافية، وهي أن يحمّل الضحية مسؤولية مصيرها. ففي سجن أبوغريب جرّ "الإرهابيون" ذلك على أنفسهم، وكذلك "الكفار" في رواية "داعش". حتى أطفال غزّة، قد جلبوا على أنفسهم ذلك الدمار، كما قالت إحدى النائبات في الكنيست الإسرائيلي.
غالبا ما يلجأ الجاني إلى تحميل الضحية مسؤولية مصيرها
ولا تكتمل الصورة من دون خصلة الطاعة. فمن ينخرطون في أعمال التعذيب لصالح مؤسسة أمنية ما (جيش أو شرطة أو خلافه من المؤسسات ذات التراتبية) لا يشترط أن يكونوا معتلين اجتماعيًا أو ساديين بطبيعتهم كما قد يتصوّر البعض. إنّما يشترط أن يكون لديهم استعداد للانصياع للأوامر دون مناقشة. ثم تتولى الدفاعات النفسية وقوة حيازة السلطة مهمة تسويغ هذا النشاط وسوق المبرّرات العقلية لأهمية الدور"الدقيق" الذي يقومون به في تمزيق أجساد وكسر أرواح "الصراصير" أو "الهمج" من أجل مهمة مقدّسة هي "حماية الصالح العام". قد يفسّر هذا ممارسات التعذيب الممنهج في أبوغريب. وربّما يفسّر الحالات المتعدّدة للاغتصاب الجماعي في السودان. وربّما أيضًا، يفسّر كلام الجندي بخفة (لا تخلو من مفاخرة) عن ضحاياه وسط أصدقائه.
هذا عن البشر. ولكن ماذا عن الكلاب؟
لو تخيّلنا للحظة، أنّ قطاع غزّة لا يوجد به إنسان واحد، وأنّه قطاع تسكنه الجراء اللطيفة. يصعب في هذه الحالة تصوّر إصرار الولايات المتحدة على إمداد إسرائيل في حربها بالمال والسلاح. يصعب كذلك تصوّر أن تتصدّر الولايات المتحدة لمنع ثلاثة مشاريع قرارات بمجلس الأمن لقرار بوقف إطلاق النارعلى الجراء. سيكون ذلك أمرًا في غاية الوحشية والبشاعة. هل كانت الولايات المتحدة ستسمح بتجويع مليونين من الكلاب في غزّة؟ بدفن الجراء الصغيرة الوديعة ذات العيون الواسعة والأصوات الطفولية والذيول المنتفخة تحت أنقاض المباني؟
فإذا كانت المسألة تكمن فقط في ثنائية "نحن" في مقابل "هم" ممن ننزع عنهم إنسانيتهم ونشبّههم بالحيوانات لنخلق مسافة كافية لإلغاء التعاطف، ففي هذا المثال المتخيّل لسنا بحاجة لتشبيه الجانب الآخر من الثنائية بالحيوانات. إنّهم بالفعل حيوانات هذه المرّة. مع ذلك، فإنّ ضربهم وإيذاءهم وتجويعهم لسبب ما سيشكل صعوبة نفسية أكبر على الجميع في الإدارة الأميركية. باستثناء حالة واحدة، وهي إذا كانت تلك الكلاب شرسة. أو إذا اعتبرتهم الولايات المتحدة خطرًا، كلابًا متمردة، كلابًا إرهابية إذا شئت. ربّما، لا يكمن السر في ثنائية الهوية فقط، بل ربّما يكمن أساسًا في الولاء من عدمه، في الطاعة بوصفها "صفة العبيد" كما تقول نوال السعداوي. إنّ الناس يحبون كلابهم ببساطة لأنها لا تقول لا. ليس ثمّة ندية مع الكلاب، فالكلاب تطيع أصحابها بلا شروط، والأهم من ذلك أنّ تصرفاتها متوقعة، مروضة، وولاؤها مضمون. هذا ما يجعل صورة استهداف مليونين من الجراء اللطيفة صورة مستحيلة. لذا (بشر أو غير ذلك)، يبدو أنّ عالمنا قد صُمّم بحيث تكون الطريقة الوحيدة لتأمن جانب الإنسان (إذا ما ملك مفاتيح القوة) هي طريق تمر بالطاعة والخضوع والانسحاق.