غزّة… إن لم تَروِ قِصّتي فقد قَتلتني مرتين

15 سبتمبر 2024
+ الخط -

عند كتابةِ هذه المقالة يدخل العدوان الصهيوأميركي الهمجي على غزّة يومه الـ345، وما زلنا نتابع الفظائع المتدفّقة عبر الشاشاتِ الكبيرة والصغيرة، وما زلنا لا نستطيع استيعاب كلّ هذا الكم من الوحشيّة وصور القتل والدمار والأطفال المذعورين تحت الأنقاض. وإذا بتنا غير قادرين على متابعةِ المشاهد، فما بالكم بمن يعيش فظاعتها على الأرض؟ 

ما يزيد عن 41 ألف شهيد، وما يقرب من 100 ألف مُصاب حتى اللحظة! هذه ليست مجرّد أرقام في إحصائياتٍ جامدة باردة، بل حيوات رائعة أُزهقت ظلمًا وعدوانًا على مرأى ومشهد من العالم أجمع. كالعادة تابعتُ اليوم بعض قِصصهم على حساب "شهداء غزّة" على منصّة إكس، كان من ضمن الشهداء رحمهم الله، والذين أُشير إليهم في الساعاتِ الأخيرة فقط جمال النوري، عبد الله الصرصور، الطفل مؤيّد أبو حميد، ماهر عبد الباري، الطفل محمد نجم، الطفلة سلام أبو معمر، الدكتورة ربا أبو العطا، طلال أبو الجديان.. وتطول القائمة ولا يبدو أنّها تنتهي، تقبّلهم الله جميعًا في عليين وربط على قلوب أحبّتهم.  

أتساءل: لماذا نستمرّ في التصوير، والنشر، والكتابة، والتوثيق، بينما المجتمع الدولي لا يصمّ آذانه فقط عن صرخاتِ الضحايا، بل ويشحذُ خناجر الغدر للمعتدي أيضًا؟ ما الفائدة وما المغزى وسط كلّ هذه الهمجيّة والعبثيّة؟ 

رواية قِصص الضحايا وحفظها من النسيان لم تكن يومًا مجرّد عمل روتيني أو إجراء قانوني مقصور على المختصّين، بل هو واجب أخلاقي علينا جميعًا، نحن من فشلنا في الأصل في إيقاف الجريمة. لا يمكن ولا يجب  لهذه القصص أن تمرّ مرور الكرام دون أن تُسجّل، ودون أن يراها العالم، ودون أن يُسمع صوت الضحايا. فكلُّ مشهدٍ، وكلّ قِصّة، هي جزء من حقيقةٍ أكبر يجب أن تُحكى حتى نهاية العالم.

كلُّ مشهدٍ، وكلّ قِصّة، جزء من حقيقةٍ أكبر يجب أن تُحكى حتى نهاية العالم

وكأنّه لا يكفي الضحيّة ما عانته من قتلٍ، وتعذيبٍ، وحصارٍ، وتجويعٍ، وتخويفٍ، حتى يعاملها هذا العالم البشع كمجرّد رقم آخر في قوائم الضحايا التي تُستعرض خلال عشر ثوان في نشراتِ الأخبار. هم ليسوا أرقامًا بل بشر لهم أسماؤهم، وكان لهم أحبّتهم وأحلامهم، وأرضهم وسماؤهم وبحرهم، وحيواتهم وقِصصهم التي يجب أن تُروى ولا تُنسى، القصص التي لا يجب أن تضيع وسط الزحام، ولا يمكن أن تصبح جزءًا من ماضٍ ضائعٍ مَنسيٍّ مع الوقت، وإلّا فإننا نكون قد قتلناهم مرّتين. 

لطالما نَسي التاريخ الدماء وتذكّر القادة والمنتصرين فقط، فعندما يتحدّث التاريخ عن الحروب والمجازر، غالبًا ما تُروى الأرقام الكبيرة، عدد القتلى، عدد اللاجئين والنازحين، حجم الدمار وقيمة إعادة الإعمار. لكن ما يضيع وسط تلك الأرقام الباردة هو الوجوه والأسماء والذكريات. توثيق قِصّة واحدة لشهيد أو شهيدة قد يكون كافيًا لفتحِ عيون العالم على معاناةٍ جماعيّة. فحين نسمع قصص الضحايا من أطفال ونساء ورجال وشيوخ غزّة، تصبح المأساة أكثر واقعيّة، أكثر قربًا. تصبح القصّة ليست خبر حربٍ بعيدةٍ في مكانٍ ناءٍ، بل قِصّة إنسانية قد تلمس القلوب المتحجّرة التي نأتْ بنفسها عن المأساة طوال عام من التضحيّات والمعاناة.

توثيقُ قِصّة واحدة لشهيد أو شهيدة قد يكون كافيًا لفتحِ عيون العالم على معاناةٍ جماعيّة

مع كلِّ قِصّة تُروى، ومع كلِّ وثيقةٍ تُجمع، ومع كلِّ خبرٍ يُنشر، ومنشور يُصاغ، يبقى هناك أمل، أمل في أن يتوقّف الظلم والإرهاب الغربي، أمل في أنّه من الممكن إنقاذ ما تبقّى من إنسانيّةِ هذا العالم، أمل بأنّ مقاومة الطغيان مستمرّة، وأنّ العدالة ستأخذ مجراها يومًا ما، أمل في أنّ الضحايا، سواء كانوا أحياءً أو رحلوا، سيُمنحون الصوت الذي يستحقونه. فحفظُ السرديّة الحقيقيّة لمعاناتهم قد يُساهم في إحياء ذكراهم، ومنحهم صوتاً حتى بعد فقدانهم حياتهم، أو المساهمة في إنقاذِ من نجا من آلةِ القتل الصهيونيّة حتى الآن. فمن خلال حفظ السردية وسرد قصصهم، تجري إعادة الظلم الذي يتعرّضون له للواجهة، وقذف الحقيقة كلّ يوم في وجه القريب الذي تخلّى عنهم وغدر بهم قبل العدوّ الذي قتلهم. 

توثيقُ السردية والقصص، أكان على المستوى الفردي أو المؤسّسي، يُشكّل أداةً فعالةً تساهم في رفع مستوى الوعي حول القضيّة وإبقائها حيّة، والتعريف بالتضحياتِ والمعاناةِ التي ما زال الفلسطينيون يخوضونها يوميًّا منذ القرن الماضي، والدعوة وحشد التأييد لوقف هذا الظلمِ المستمر. رواية هذه الجرائم وقِصص الضحايا، يمنح الضحايا صوتًا، ويحفظ الذاكرة، ويحشد الدعم، ويخلقُ ضغطًا على المجتمع الدولي للتحرّك. فلا يمكن لمجرمي الحرب الصهاينة وداعميهم الهروب من المساءلة إذا كانت هناك أدلة قوية تُسجّل وتُعرض على مرأى من الجميع حتى لو بعد حين. كلٌّ شهادةٍ، كلُّ مقالٍ، كلُّ منشورٍ، كلُّ صورةٍ، كلُّ فيديو مهم. 

وفي النهاية، ليس الهدف من متابعة الأخبار والمشاركة في حفظ السرديّة وقِصص الضحايا هو الغرق في اليأس، بل هو التذكّر، تذكر أنّ هنالك جريمة مستمرة يجب أن تُوثّق وأن يجري العمل على إيقافها ومحاسبة المجرمين وشركائهم، فكلُّ ضحيّةٍ تستحق أن تُروى قصّتها، لأنّ الحقيقة يجب ألّا تموت، وإذا روينا قِصص من رحلوا، فعلى الأقل لن يموتوا مرّتين، ولعلّنا نساهم في إنقاذ من بقي منهم. 

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.