غزة التي عرّت أوروبا
كانت الفقاعة متضخمة للغاية، واصلةً إلى أقصى انتفاخ لها. والناس موهومون من بعيد، يضعونها في موضع النبي الجديد، الذين يؤمنون به، ينبهرون بكلّ قول له، يمتثلون لأوامره، ويتعجبون من مدى بلاغته وفصاحته وقوته، معزّزًا بمددٍ إلهي، وعونٍ رباني، يمنعه من الزلل، ويجعله قائد البشرية في عصره، يعلّمهم، ويزكّيهم، فيدعون أديانهم الهابطة من السماء، مؤمنين بدين أوروبا الصاعدة إلى القمر.
حتى صار الغرب مقياسًا لكلّ شيء، الناس كادوا يلغون الشطافات من مراحيضهم لأنّ أوروبا ليس فيها ذلك الاختراع، واللغة، والخطاب، والحديث عن حقوق الإنسان، والتعدّدية، والحريات، وحق القطط في عدم التهجير من أوطانها، وحق التوت البري ألّا يسقط من على الشجر، وحق حيوانات الكوالا في نوم هادئ، والكانغرو في أمومة صحية سليمة، وحق الأخشاب في التنفس، وحق الشجر في البقاء على قيد الحياة.
لا بأس بأن يحصل كلّ على حقه، ما دام كائنًا حيّاً، ما دام حيوانًا أو إنسانًا معيّنًا، بأيّ ميول يريدها، ولكن أن يكون فلسطينياً، بل ومن غزة، بل (يا لبجاحته) لا يميل إلّا للبقاء على قيد الحياة، يأكل، ويشرب، وينام، ويذهب للمدرسة والعمل، تحت أسقف آمنة، وفي شكل طبيعي؟ عذرًا، لا حق لهم في ذلك، لأنّ حق دودة القز في الراحة من صنع الحرير أولى بكثير، أو لا تكاد تقارن بها، حقوق الفلسطينيين في الأرض والعرض والعيش.
هذا الدور الذي مارسته أوروبا، ومعلمتها أميركا، لعقودٍ طويلة، من محاولات "الأستذة" على العالم، والقعود لـ"السقطة واللقطة" في بلادنا، انكشف أنّه ليس دورًا إنسانيًّا قيميًّا كما كنّا نتصوّر، وإنّما هو مجرّد بند في الأجندة الكبيرة، التي لم تخصّص واحدة من صفحاتها لقضية العرب والمسلمين الأم، وبندهم الأول، وحكايتهم الخالدة.
أميركا، أكبر ديمقراطيات العالم، وزعيمة الكوكب في حقوق الإنسان والحيوان والبشر والشجر، لا يمانع متحدّثوها، ولا ساستها، هذه الأيام بقتل ألفي طفل في غزة، يُذبحون ذبحاً، يعلق ألف آخرون منهم تحت الأنقاض، لأنّهم في نطاق حق "إسرائيل" في الدفاع عن نفسها، بل لا تبرّر لتلك النظرية الإجرامية (وهي القائمة على أشلاء السكان الأصليين)، بل ترسل الأسلحة، والذخيرة، والخبراء العسكريين، والضباط الكبار، والنخبةَ من جنودها، ليكونوا بجوار جيش الاحتلال، في معركته لسحق المقاومة الفلسطينية، حتى ينتهي ذلك الصراع للأبد، ونكفّ عن الصداع المزمن، الذي يسمّى غزة، القدس، العودة، المقاومة، الأسرى، فلسطين.
الحرب على غزة لم تكشف دول الغرب بصفتها أكاذيب معدومة الإنسانية والأخلاق، وإنّما كـ"مجرمي حرب" و"مصاصي دماء" و"قتلة متسلسلين"
وخلفها أوروبا، ألمانيا المصابة بعقدة "الأنتي نازيسم"، تذهب لدعم إسرائيل عميانيًّا، دون أن تلحظ تقريباً أنّها بذلك تدعم "النيو نازيسم" في صورة أبشع من هتلر، لكن المسمّى مختلف، والألقاب متباينة، والشخوص، ما بين الفوهرر وغوبلز ونتنياهو وغالانت... ربّما لو كانت إسرائيل دولة حينها، بجوار ألمانيا، بدلًا من أن يحتل هتلر نصف الأرض، لكانت إسرائيل هي التي تحتل النصف الآخر، وتبيد النصف الثاني من السكان، لكن ألمانيا لا تريد أن ترى عقدتها، في يديها الملطختين بالدماء ورائحة شيّ الجثث في أفران الغاز.
وعلى النهج فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، ودول الاستعمار التي ربّما ظنّت نفسها نسيت غريزتها القائمة على استعباد الآخرين، ووضعت مستحضرات التجميل الانتخابية والتعدّدية وشبه الإنسانية، ليسقط كلّ ذلك فجأة، بكوب ما رشتّه غزة في الهواء، فسالت مسحوقاتهم على وجوههم، لتبدو وجوههم الحقيقية كمصاصي دماء.
وقع القناع؟ انكشفت الأكذوبة؟ سقطت العباءة؟ طارت ورقة التوت؟ توصيفات لا أحبّها لأنّها تخفف كثيرًا جدا، بل وتجامل وتجمّل الحقيقة الماثلة أمامنا، فهذه الدول ليست أحد أصدقائك بعد موقف بينكما، وإنّما هي قوى استعمارية، تشارك، بكلّ ما تملك، عفواً بكل ما لا تملك، في ذبح أطفال غزة ونسائها، ومحاولة محوها من الخريطة، وقتل المقاومة التي لو كانت في دولة أخرى حليفة لصنعوا لها كلّ يوم حلقة على منصّة نتفليكس.
هذه الدول لم تكشفها غزة بصفتها أكاذيب معدومة الإنسانية والأخلاق، وإنّما كـ"مجرمي حرب" و"مصاصي دماء" و"قتلة متسلسلين"، وأنّ ذلك الذي ينفثونه كالأفاعي في بدن أمتنا، بدا لنا جليًّا من مرارته وفتكه، أنه لا سمّ كَسُمّ أميركا وكَسُمّ أوروبا وكسُمّ الغرب الهمجي.