عينُ مسلمة في الكنيسة

24 نوفمبر 2022
+ الخط -

أن تتحوّل بلدة سياحية تعجُّ بالحركة والناس وغروبات السياحة، إلى بلدة شبه خاوية، بالكاد ترى سيارة تمرُّ فيها كلّ عشر دقائق، أمرٌ مؤسف!

هكذا أصبحت بلدة معلولا الممتدّة على أطراف دمشق؛ بلدة بشوارع واسعة خالية من أيّ ازدحام، وبمحلاتٍ مغلقة دائماً، وبيوت كثيرة منظّمة بتنسيق جميل؛ لكنها فارغة! بعدما هاجر معظم سكان هذه البلدة خارجها بسبب الحرب، ولم يبقَ فيها إلا قلّةٌ أغلبهم من العجائز أو من تجاوز الخمسين من العمر. وحتى وسائل المواصلات إليها تتوقف بعد الساعة الثالثة ظهراً؛ إذ لا أحدَ يأتي إلى هذه البلدة إلا القليل.

حين تمشي في شوارعها تشعر بأنك وحدك هنا كأنك دخلتَ مدينة غريبةً تطوف بعض الأشباح في أركانها الخاوية وتتلصّص عليك بعض العيون من شرفة أو نافذة ما، ومع ذلك لن ترى عيوناً كثيرة فيها، وإن أردتَ أن تسألَ عن طريقٍ، عليك أن تبحثَ قليلاً حتى تجد فرداً تسأله.

دخلنا كنيسة مار تقلا، وأنا أحملُ صوراً ضبابية عنها في ذاكرتي منذ قدِمنا إليها في رحلةٍ مدرسية في سنِّ السادسة عشرة، لكنني هذه المرة احتفظتُ بصورٍ أكثر عمقاً عنها. أرشدتنا الراهبة هناك إلى الداخل وجلست تروي لنا قصصاً عن القديسة، أشعلنا الشموع داعين الربّ أن يضيء حياتنا، ثم تجولنا في الكنيسة، أحسستُ بالخجل لأوّل مرّة من ضعفِ ثقافتي، فأنا التي أحبّ الاطلاع على كلِّ شيء كيف لا أعرف طقوس المسيحيين في كنائسهم؟! مكتفية بما رأيته في وسائل الإعلام عن القدّاس والإكليل والتعميد والزواج، دون أن أعرف تفاصيل عنها، لذا وقفنا حائرين: ماذا نفعل بعد؟

شعرتُ بتقصيري تجاه معرفة الأديان وطقوسها، ليس من باب الإيمان، بل من باب الثقافة، على الرغم من أنّ طقوس الدين الإسلامي الذي أنتمي إليه لا تعنيني كثيراً، ولا أدخل في تفاصيلها أحياناً كثيرة، لأني متصالحة مع فكرة أنّ الأديان وُجدت كي تعرّفَنا إلى الله، لا كي نتمسك بها وننسى الإله؛ فهي طريقٌ للوصول إليه، لكنها ليست كلّ شيء، وليست الطريق الوحيدة. 

بدت الراهبة لطيفة وطيبة، بعكس الراهبة التي رأيناها في غرفة ضريح القديسة، إذ كانت فظّةً وغير مريحة، بشكل يجعلنا نستهجن فكرة اختيارها لوظيفة روحية كهذه في مكان له قدسيته لدى كثيرين. 

الأديان وُجدت كي تعرّفَنا على الله لا كي نتمسك بها وننسى الإله

أما في دير مار سركيس وباخوس، فقد كان الأمرُ مختلفاً؛ إذ كانت الصبيةُ هناك لطيفةً جداً، وسردت لنا قصة الدير وكيف كان معبداً وثنياً سابقاً، تُقام فيه الطقوس الوثنية، حتى تحوّل إلى كنيسة. وهذا يثبت أنّ الأديان مرتبطة بسلطة الأقوى والمسيطر، وكلّ دين لجأ إلى القوة والعنف لإثبات وجوده وإزاحة غيره، كي يتسلّم دُعاته زمام الأمور والتحكّم في المنطقة غير عابئين بإيمان الآخرين بعقائد مغايرة لعقيدتهم وتقديسهم لها، ولا بالجانب الثقافي والاجتماعي لأيّ معتقد مختلف. 

لفتتني في هذا الدير أدوات الزراعة الأثرية القديمة التي كانت كبيرة الحجمِ بشكلٍ لافت يصل إلى ضعفي حجم الأدوات الحالي، ما يُشعِرُ بأنّ الإنسان الذي استعملها كان أضخم من إنسان اليوم حتى تمكّن من حملها والعمل بها.

خرجنا من الدير عائدين في طريق واسعٍ بين الجبال الصخرية التي يخبئ كلُّ جبلٍ منها قصةً عن هاربين ومختبئين ومحاربين وعشاق، أعطت ألوانها البنية المتدرجة كثيراً من مشاعر الحنين والدفء للمكان، ما جعلني آسفُ للحياة الهاربة من هذه البلدة. 

كان السؤال الملحُّ عليَّ طوال طريق العودة هو: ألن يعودَ أولئك الراحلون يوماً ويملأوا المنازل والطرقات ثانية، ويؤرّقهم ضجيج المارة والسيارات؟! 

رهف غدير
رهف غدير
مدرّسة لغة عربية سورية، وتعمل في إخراج وتدقيق الكتب العربية.