تحوّلات الحج... من هاجر إلى الصوفيين إلى المسلمين عامة
مع حلول عيد الأضحى الذي يحتفل فيه المسلمون سنوياً، بدأ الناس بأداء مناسك الحج، الذي يترافق معه. فما السرّ بالرغبة في الحج؟ هل لأنه فريضة في الإسلام، أم للمشاركة روحياً في هذا الاحتفال الديني الكبير، أم لمحو الذنوب، كما تقول كتب الدين، أم لأسبابٍ أخرى؟
لكلّ إنسان سبب لقيامه بالحج، ولكن الأسباب تعدّلت مع تقدّم الزمن عن غايات الحج الأولى، التي أعتقد أنها كانت أكثر إقناعاً وقوة.
يروي التاريخ أنّ أول رحلة حج إلى الكعبة حدثت حين بدأت هاجر، زوجة النبي إبراهيم الخليل، تسعى للبحث عن الماء بين الصفا والمروة، بعدما تركها النبي إبراهيم مع ابنها إسماعيل في أرض الحجاز، حيث لا ماء ولا طعام، بأمر من الله تعالى، فاشتدّ بهما العطش وراحت تطوف في المكان بحثاً عن الماء، وحين عودتها خالية الوِفاض، وجدت ولدها إسماعيل يضرب الأرض بقدمه باكياً من شدة العطش حتى انفجرت ماء من تحتها سُميت بئر زمزم.
وفيما بعد، وبعدما أمر الله نبيّه إبراهيم ببناء الكعبة مع ولده إسماعيل في ذاك المكان، صار الحج يُقام إلى الكعبة.
لا يمكن أن تُمحى ذنوب أيّ حاج لمجرّد أنه أدّى مناسك الحج، كما يُخشى من أنّ الناس قد يرتكبون الأخطاء مطمئنين أنها ستُمحى بالحج
إن توقفنا عند هذا الحدث قليلاً، سنجد للحج دلالات مختلفة إلى حدٍّ ما عن دلالات الحج الشائعة الآن، فالحج هو السعي، وكان السعي لطلب الماء الذي يمنح الحياة لكلّ شيء، إنه الأساس الذي تقوم عليه الحياة، ومنه خُلق كلّ شيء، وإن ربطنا دلالته روحياً، فإنّ ما يُخلق من قِبلِه كلّ شيء، هو الله. إذاً، السعي إلى الله خالق ومانح كلّ شيء، والماء الذي سعت إليه هاجر وولدها إسماعيل مرتبط بالحياة أولاً وبالطهارة ثانياً، ومن هنا جاء معنى التطهير من الأخطاء والذنوب الذي يحمله الحج، وهو تطهير للروح قبل كلّ شيء.
لذا، أعتقد أنّ فكرة محو الذنوب المرتبطة بالحج، والتي يسعى لها الحاج، تحمل دلالة أكثر بعداً وعمقاً مما هو متعارف عليه. فقد علق في أذهان الناس أنّ القيام بالحج يمحو الذنوب، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، ولا يمكن أن تُمحى ذنوب أيّ حاج لمجرّد أنه أدّى مناسك الحج، كذلك يُخشى من أنّ الناس قد يرتكبون الأخطاء مطمئنين إلى أنها ستُمحى بالحج، ولا سيما الصغائر، كما يقول أهل العلم الديني.
وأيضاً ماذا عمّن لا يسمح له وضعه المادي بأن يسافر لأداء هذه الفريضة؟ هل سيبقى يحمل ذنوبه حتى يموت بينما الغني محاها بسهولة لأنه امتلك المال للسفر والحج؟ إن كان ذلك صحيحاً، فأين العدل الإلهي في هذا؟ رغم أننا لسنا بحاجة إلى التشكيك فيه. لكن أن يلعب المال دوراً في محو الذنوب، فهذا ينافي فكرة العدل السماوي والترفّع عن الماديات.
كذلك إنّ غاية الحج هي الاتصال الروحي مع الله والسعي إليه هو الواحد، مانح الحياة، لا لمحو الذنوب.
من سوء حظنا، أنّ كثيراً مما يُدعم من أفكار ومعتقدات دينية منذ القدم وحتى الآن ظلّت ناقصة في جوانب منها، بينما المعتقدات أو الأفكار الأكثر كمالاً حُوربت وقُمعت، وأُنِيطَت بالسّرية، وبقي الجهل أكثر تفشيّاً من المعرفة.
أن يلعب المال دوراً في محو الذنوب فهذا ينافي فكرة العدل السماوي والترفّع عن الماديات
من الواضح أنّ للحج معانيَ وغايات عدّة غير الثانويات التي يهتم بها الناس، وهذه الغايات نجدها عند كثير من رموز الدين والتصوّف ممن ترفّعوا عن الماديات واهتموا بالمعاني الباطنية أكثر. فمثلاً، رُوي عن المتصوّف الشهير، الحسين بن منصور الحلاج (244هـ - 309هـ) أنه كتب في مؤلفاته: "إنّ الإنسان إذا أراد أن يحجَّ ولم يستطع ذلك، فعليه أن يُفرد مكاناً في داره يطهّره وينصب فيه ما يشبه الكعبة، فيطوف حوله كما لو كان مكة".
وبالطبع حُورب الحلاج من أجل هذه الفكرة وغيرها من أفكاره الصوفية، ولم يشفع له القاضي حين أخبره أنّ هذه الفكرة وجدها عند "الحسن البصري" في كتابه "الإخلاص"، فحكمه بالإعدام، مع أنّ الحلاج لم يقصد بالحج المعنى الظاهري من زيارة مكة وتأدية الشعائر، بل أراد المعنى الجوهري في عمق هذه الشعائر، والذي هو إفراد الله الأحد والحج إليه، فهو السكن والملاذ والأنس الحقيقي. وهذا ما عناه بقوله:
للناسِ حجٌّ ولي حجٌّ إلى سكني تُهدى الأضاحي وأُهدي مهجتي ودمي
فالتضحية ليست مادية بالنسبة إلى الحلاج، بل هي تضحية بالروح أمام ذات الله تعالى ووحدانيته، وسكنُه هو ما تسكن إليه الروح وتأنس بوجوده، وهو الله الحق الذي سكن قلبه.
غاية الحج هي الاتصال الروحي مع الله والسعي إليه هو الواحد، مانح الحياة، لا لمحو الذنوب
وأكد الحلاج أنّ استمرار الناس في البغضاء والأنانية وعشق الماديات لن يجعل لحجّهم معنى؛ لأنّ المعنى الحقيقي للحج هو في التطهّر منها وموت الأنا والفناء عن النفس ليتّحدَ الإنسان مع الله الواحد الحق ويذوب في أنوار الألوهية، دون الانتقال من المكان.
وفي حجِّه تقاطعٌ كبيرٌ مع دلالات سعي هاجر لطلب الماء الذي منه كلّ شيء حيّ، والله وحده خالق كلّ شيء، إنه إذاً بحث عن الإله الواحد!
أحياناً يدور السؤال: لماذا يقيّد الدين طرائق الإيمان ولا يتركها مفتوحة على مفهوم السعي نحو الإله ومحبته بغضّ النظر عن الطرائق ما دامت غير خاطئة أو مؤذية؟ هل لأنّ كثيراً من الناس لا يعرفون الطريق إلى الله إلا إنْ وجّههم أحدٌ ما؟ ألا يمكن لقلب المؤمن بالله أن يدلّه على طريق الوصول إلى غايته ومعشوقه من دون تدخّل من يعيّنون أنفسهم أوصياء على الأديان؟