الإبداع بين المرحلة الفطرية والاكتساب
الإبداع مثل كلّ شيء في الحياة؛ يحتاج إلى عناية حتى يكبر ويتطوّر، ولذلك شكلت عملية القراءة عند كثير من أدباء العصر الحديث نشاطاً موازياً لفعل الإبداع، وموجّهاً لعملية الخلق الأدبي.
وعلى الرغم من أنه لا يمكن الجزم بمصدر الإبداع عند الفرد، إلا أنه يمكننا الانطلاق من فكرة أنّ الإبداع منشأٌ فطريٌّ قبل أيّ اجتهاد ثقافي أو علمي، فهو مرتبط بلحظاتِ إلهامٍ لا شعورية وحالاتٍ نفسية مختلفة من الصعبِ تحديد أوقات حدوثها أو حصرها أو التحكّم بها.
ومن ثم الوصول إلى فكرة ارتباط التفكير الإبداعي بالإبداع، الذي يُعدُّ أسلوب عمل أو أسلوب تفكير، يمكن اكتسابه كأيّ مهارة، ويترافق مع الموهبة والدافع والجرأة في مخالفة النمط المعرفي السائد. ولذلك رأى العلماء أنّ الإبداع فطري واكتسابيٌّ معاً.
أحياناً، يمكن لشخصٍ متذوّقٍ للأدب، حتى لو لم يكن ناقداً، أن يميّز بين الأدب الناتج عن إبداع فطريٍّ وموهبة، وبين الذي ينتجُ عن اجتهادٍ وثقافةٍ ومعرفة، لاسيما وأنّ روح الكاتب تبرز في نتاجه الإبداعي بشكل أكثر وضوحاً حين ينمُّ على موهبة فطرية. ولكن بالتأكيد لن نغفلَ تأثير المَلَكات العقلية، والسمات الشخصية للفرد، وحالته النفسية، والبيئة التي يعيش فيها، وغيرها.. في عملية الإبداع والابتكار.
ولو توقفنا عند لحظات الإبداع لدى بعض المبدعين، لرأينا كيف تتنوّع هذه اللحظات وتختلف باختلاف الفرد ونمط حياته، بل وتكون غريبةً أحياناً. فالكاتب الروسي "ديستوفسكي" مثلاً، كان يترك فكرته لتتخمّر وتنضج ولا يتعجل كتابتها، فإن نسيها تبيّن له أنها فكرة غير جديرة بالتدوين، أما لو بقيت تلحُّ عليه فهي كلمة نورانية عميقة تستحق أن تُكتب.
وأيضاً رُويَ عن الكاتب الفرنسي، غوستاف فلوبير، أنه كان يحبُّ ركوب الحصان ليدوّنَ الأفكار التي تحضره حينها. وكان أحياناً أخرى يضيء منزله كلّه، ويرتدي ملابسه كاملةً ثم يجلس ليكتب.
وكان الكاتب فيكتور هيغو، يجلس في غرفة خاصة به، متجرّداً من ثيابه كلّها تفادياً لتشتيت ذهنه!
ولدى الكاتب، دان براون، طقس غريبٌ في الكتابة، حيث كان يعلّق رجليه في السارية ورأسه باتجاه الأرض، مما يساعده (برأيه) على قلبِ وجهة نظره، ورؤية الأفكار بشكل مختلف.
شعلة الإبداع تنمو وتكبر بالمعرفة والثقافة والسعي الدائم لتخصيبها بالفكر، وقد تبقى ضئيلةً في الظلِّ بلا عناية واهتمام إلى أن تخمد وتضمحل في النهاية
أما الشاعر أحمد شوقي، فكان حينما يفاجئه الإلهام، يكتب على كفِّ يده أو علبة سجائره، لأنه لم يكن يثق بذاكرته قط. وكان المقهى مكان إلهام الكاتب المصري، نجيب محفوظ، إلى جانب أغاني المذياع وخروجه للمشي.
وأيضاً، رُوِيَ عن الكاتب الجزائري الطاهر وطّار، أنه كان يتجنّب بيته العائلي ويكتب في مقطورة قطار تنتقل به من مكان إلى آخر حتى ينتهي من كتابة روايته، ثم اشترى محلاً على الشاطئ وصار يكتب فيه.
وإن عدنا إلى مرحلة زمنية سابقة، نجد أنّ هناك مفكرين ونقّاداً قد حاولوا تحديد بعض اللحظات الإبداعية أو الأساس النفسي للإبداع الأدبي، ومنهم مؤسس فكر الاعتزال في بغداد، بشر بن المعتمر (ت: 210هـ)، حيث حدّد اللحظة الإبداعية لدى المبدع بلحظة خاصة هي ساعة النشاط والتوّقّد الإبداعي، فلا ينشغل عن الكتابة بأمر ما، ويجب أن تستجيبَ نفسه لحالةِ إبداعه، وتطاوعهُ، فلا يجهدها حتى تخرج الفكرة من رأسه، بل ينتظرها حتى تنضج وتخرج تلقائياً.
ورأى العالم والأديب والمؤرخ ابن سلّام الجُمحيّ (ت: 231هـ)، أنّ هناك لحظةً نفسيّةً تساعد على الإبداع الشعري، وتعدُّ الأساس الحقيقي له، وهي لحظة الانفعال، والتي تؤجج انفعالات المبدع وعواطفه ومشاعره، وتأتي في أوقاتٍ معينةٍ تتوقّدُ فيها نفسُ المبدع، ويتحركُ حماسه الروحي والعاطفي لقولِ الشعر.
ومن أشهر النقاد الذين تطرّقوا لهذه الفكرة أيضاً العالم والأديب اللغوي ابن قتيبة ( ت: 276هـ)، والذي حدّد الأساس النفسي لقول الشعر في ثلاثة جوانب؛ أولها حدّد فيه أوقات الإبداع الشعري بأنها أوّل الليل وأوّل النهار؛ لأنّ الإنسان عموماً تُستثارُ عواطفه في هذين الوقتين لما فيهما من جمال وبهاء.
والجانب الثاني، يتمثّل بالحالات الخاصة التي يمرُّ فيها الشاعر، من مثل (الشوق، الشراب، الغضب، الطرب...) فهي تساهم في اشتعال جذوة الإبداع لديه، وتشكّل حافزاً قويّاً لقول الشعر.
أما الثالث، فهو الأغراض الشعرية التي يهدف إليها الشاعر، وبناء على العامل النفسي المتأصّل لديه، قد ينجح بها أو لا ينجح.
إنّ الإبداع يُخلقُ كشعلة في داخل الفرد، هذه الشعلة قد تنمو وتكبر بالمعرفة والثقافة والسعي الدائم لتخصيبها بالفكر، وقد تبقى ضئيلةً في الظلِّ بلا عناية واهتمام إلى أن تخمد وتضمحل في النهاية.