عن ومن تحولات الأستاذ إبراهيم عيسى (2/2)

13 أكتوبر 2020
+ الخط -

إذا كنت ستعتبر هذه السطور التي كتبها الأستاذ إبراهيم عيسى في مديح الحركة الإسلامية في فلسطين والتأكيد على خطأ استبعاد الدين من حسبة الصراع مع إسرائيل، مجرد انفعال لحظي بسبب ما كانت تشهده مصر والمنطقة العربية من أحداث في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، فدعني أذكرك أن الأستاذ إبراهيم لم يقم بمراجعة هذه الرؤية أو نقدها أو مناقشتها، ليبين لقرائه ما الذي تغير منها وما الذي بقي كما هو، بل إنه حين أصدر في عام 2008 كتاباً بعنوان (كتابي عن مبارك عصره ومصره)، قام بالتأكيد على نفس الآراء ولكن مع المزيد من التوضيح لها، حيث يقول في صفحة 333 من كتابه الذي لم يعلن تراجعه عنه أو نقده له حتى الآن: "أحسب إن هذا الرأي القائم على إخراج الدين من المعادلة هو المسئول عن ضعف وتهرؤ العمود الفقري لمواجهة اسرائيل... فلماذا نريد استبعاد الدين من أسباب وحسبة الصراع مع اسرائيل كأننا نخشى دخول الدين المعركة حتى لا نوصم بالأصولية رغم أن المعركة كلها تقف على أعمدة الدين، والذي أرادها هكذا وأسسها كذلك هم اليهود مثلما يملكون تماما الأسلحة النووية والذرية ويهددون بها العرب ثم يرفضون ويحاربون من أجل ألا يمتلك العرب سلاحا نوويا، إنهم يحاربون باليهودية ثم يصرخون لو حاربتهم بالإسلام والمؤسف أن بعضنا يصرخ معهم دون أن يدرك الفاصل الهائل بين الدين كسلاح احتلال وعنصرية عند اليهود والدين كسلاح مقاومة وعدل عند المسلمين، فالحقيقة أننا لا نحارب اليهود في إسرائيل، لأنهم يهود ولكن لأنهم محتلون، المشكلة أنهم محتلون لأنهم يهود".

وفي صفحة 336 يضيف الأستاذ إبراهيم عيسى قائلاً: "ثم هل هناك غير الدين وقوة الإيمان أعطيا للعرب قوة ونصرا كما حدث مع حسن نصر الله وكما لم يحدث في كل الحروب العلمانية مع إسرائيل التي انتهت كلها ـ أقول كلها ـ بهزائم عربية، فكيف يطلب مني اليساري الحكيم والليبرالي المتين أن أتخلى عن الدين سلاحا أصيلا ومشاركا في قوتي وذخيرتي".

كم يحزنني كمحب قديم له وكتلميذ لا ينكر فضله، ألا ينتهز الأستاذ إبراهيم عيسى الجديد هذه الفرصة لكي يقرأ إبراهيم عيسى القديم، ويقوم بمراجعته ونقده وتفنيد تطوراته وتحولاته على الملأ

بالتأكيد، من حق أي كاتب أن يتبنى آراء معينة في فترة، ثم يقوم بمراجعتها وتغييرها، لأن الثبات على المواقف دون مراجعة أو نقد أو تغيير، يوصل الكاتب إلى الجمود والتحجر، ولا أريد أن أخوض فيما كتبته سابقاً عن الفرق بين الثبات على المبادئ والثبات على المواقف، لأن المبادئ في ظني هي التي لا يصح تغييرها، فلا يمكن أن يتحول الكاتب فجأة من الدفاع عن الحرية والعدالة والنزاهة والعقلانية ليصبح مدافعاً عن القمع والظلم والفساد والجهل، مع التأكيد على أنه لا توجد تعريفات أو معانٍ قاطعة وثابتة لهذه المبادئ، وكل كاتب محق في أن يتبنى تعريفاته الخاصة لها، ويُترك الحكم على ما يكتبه للقراء، أما المواقف السياسية والفكرية فهي التي يمكن بل يجب أن تتغير طبقاً لتغيرات الواقع وظروفه، والمهم أن يكون هذا التغيير أصيلاً ونزيهاً ونابعاً من ضمير الكاتب وأمانته المهنية واستقلاله، وكل هذه أمور خلافية، لن تجد أحكاماً نهائية وقاطعة بشأنها مهما كانت أمانة الكاتب ونزاهته، ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة في رأيهم في أي شيئ بما فيه الكتاب، لكنهم كانوا ولا يزالون وسيظلون مختلفين.

مشكلتي مع الأستاذ إبراهيم عيسى أنه يدرك ضعف ذاكرة الكثيرين، خصوصاً بعد أن حرص على محو أرشيف مقالاته في صحيفة (التحرير) والتي يناقض بعضها بعضاً بشكل مفزع، وأنه يراهن دائماً بحسه التجاري المبهر على جمهور جديد، لم يقرأ له من قبل، ولا يعرف مراحله المختلفة، ولذلك فهو لا يشغل نفسه بالحوار العلني والدائم مع كتاباته السابقة وتأملها ونقدها، وهو ما كان سيستفيد منه قراؤه بنفس الطريقة التي سيستفيد منها هو، ليفهموا كيف ولدت مواقفه السابقة وكيف تطورت ولماذا تحولت؟ وهو ما يمكن أن يساعد شباب القراء ـ وشباب الكتّاب أيضاً ـ على الفهم والتطور، وهو أيضاً ما سيرفع من قدر الأستاذ إبراهيم في نظرهم، لأن كاتب الرأي يدرك أن علاقته الأهم تكون مع متابعيه المنتظمين الذين يرون كيف تولد مواقفه وكيف تتطور، وليس مع الذين تقتصر علاقتهم به على اصطياد زلّات أو عثرات، ويتصورون أنها يمكن أن تختزل مشواره وتلغي تاريخه.

أعلم أن الأستاذ إبراهيم يدرك أن الكثير من القراء والمستمعين والمشاهدين والكتّاب، ليس لديهم رفاهية الاختيار و"التنقية" وسط عفن وانحطاط اللحظة الراهنة في مصر، ولذلك يتسامحون مع قفزاته البهلوانية التي تخلى فيها عن قدر كبير من الإمتاع الذي كان يمسك بناصيته في السابق، لأن مقارنته بأي من اللاعبين إلى جواره في الساحة التي تم إحكام السيطرة عليها، ستكون قطعاً في صالحه، ولأنني أعلم قدرات الأستاذ إبراهيم ومهاراته، فأنا متأكد أنه سيحتفظ بمكان خاص دائماً على الساحة، لأنه لم يصل إلى ما وصل إليه من نجاح وشهرة بفضل دعم الأجهزة السيادية كما يدعي بعض كارهيه، بل حقق ذلك بفضل موهبته واجتهاده ودأبه وإصراره على تخطي عقبات المنع والمصادرة والحجب.

وكم يحزنني كمحب قديم له وكتلميذ لا ينكر فضله، ألا ينتهز الأستاذ إبراهيم عيسى الجديد هذه الفرصة لكي يقرأ إبراهيم عيسى القديم، ويقوم بمراجعته ونقده وتفنيد تطوراته وتحولاته على الملأ، لأن تلك ستكون خدمة كبيرة يقدمها للصحافة والإعلام، لا تقل أهمية عما قدمه من قبل، حين ساهم في إخراج الصحافة المصرية من ركودها وتحجرها، وكم أتمنى على الله، وليس على الله بكثير، أن أرى الأستاذ إبراهيم عيسى وهو يراجع نفسه في شهادته المؤسفة في قضية قتل المتظاهرين، والتي كانت البند السادس في حيثيات حكم المحكمة بتبرئة مبارك من قتل المتظاهرين للأسف الشديد، وأن يراجع نفسه في تأييده المبالغ فيه لما جرى من قتل وقمع في السنوات الأخيرة، لدرجة أنه وصف محمد إبراهيم وزير الداخلية الذي تورط في مذبحة رابعة بأنه "أحسن وزير داخلية في تاريخ مصر".

ولأنني لا أريد أن أتخلى عن إدماني لتصديق الأستاذ إبراهيم وإحسان الظن به بكل براءة ـ ولا اقول بلاهة ـ فأنا واثق أنه سيقوم بتلك المراجعة يوماً ما، ليس فقط من أجل نفسه، بل ومن أجل أبنائه وأحبابه وتلاميذه، ومن أجل قرائه الذين كان بالنسبة لهم شيئاً كبيراً ومهماً، وأظنهم يتمنون له مثلما يتمنون لأنفسهم السعادة والصحة وحسن الختام.

أحسن الله ختامنا جميعاً وأعاننا على أنفسنا.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.