عن مسلسل "ألو حياتي"
ثمّة ظاهرة فنية تدعى "ألو حياتي" بدءاً من العام 1974، وتتجاوز "الألو" هنا الذاكرة اللبنانية إلى تعميم "حياتي" على حياة الشركاء في كلّ زمان ومكان، حيث حالة من الهيام الشديد بتلك الشخصيات "غير السوية" التي قرّر صناع الرومانطيقيا أن يحملوها إلى داخل عقولنا المتجاوزة للزمن. كلمة السر، هما معاً، عبد المجيد مجذوب وهند أبي اللمع، أداؤهما وطبيعة دورهما، والأهم ما يتمتعان به من كاريزما، هي السبب وراء انجذاب الجمهور تجاه العمل التلفزيوني.
ولكن هند أبي اللمع تلمع بشخصية مسمّمة للحب في حين عبد المجيد مجذوب لا يجذب سوى وقت ضائع في لعبة كرة الحب؛ ركلة كلامية، أيّ مشادة من هنا وركلة من هناك، واللعبة تنتهي عند كلّ اتصال لصالح القانون لا روحه كما عند مونتسكيو، فيغدو من العدالة أن لا يكون هنالك قانون في الحب؛ فالتواصل الرومانطيقي هو بوهيمي في أصله لا بهيمي كما في المسلسل، ولا يخضع لأي قانون كان، هو حر وسريالي على غرار لوحات سيلفادور دالي.
فعلى الرغم من اقتناع كثيرين بأنّ العلاقة الرومانطيقية بين مجذوب وأبي اللمع "توكسيك" حسب الوصف الذي صار دارجًا اليوم، فإنهم لم يُخفوا إعجابهم بها، بل ثمّة من شعر بالغبطة تجاه هذا النوع من التواصل السلبي.
إنّ أفضل وصف يمكن أن نصف به أبطال "ألو حياتي" أنها شخصيات مؤذية بعضها لبعض، لا تتوانى عن كسر خاطر بعضها بعضا، وذلك بسبب الأفكار المغلوطة عن الحبّ المستمدة من الروايات والكتب القانونية التي تقرأها أبي اللمع ومن الخيال المثالي الذي يشطح به المجذوب، فنجد أنّ نموذج الحب الذي يقدمانه بعضهم لبعض هو نموذج قاس، وإن بدا عكس ذلك من خلال الإخراج والتصوير، ولكن على صعيد الشعور الفردي، هو ليس فقط قاسياً، ولكنه يحمل غضباً مستتراً حيال العلاقات في العموم، وبالأخص ما يُوصم منها بالحميمية.
المساواة في "ألو حياتي" تمثل تعدّياً على قانون العدالة
إنّ "ألو حياتي" قائم على الهاتف، فيهتف بتواصل ناقصة أركانه وهو "ألو" واقعي، ما يعمّق الفجوة بين مثالية حياته تلك وواقعيتها، وبذلك يسقط الحب في هاوية الوادي ويتعذر رؤية هلاله في السماء كما يتعذر رؤية الحجر الصغير في الوادي ذاك، فيكون حبّاً ساقطاً مبتذلاً ينادي "بألو إجري" فيجري على قدم وساق مع رائحة نتنة من فظاظة "ألو إجري".
نجد أيضاً أنّ أبي اللمع لديها اتجاه نسوي في مساواة المجذوب اجتماعياً، إذ ترفض الارتباط به حتى تحصل المساواة، وقد تكون هذه الفكرة هي الأشدّ سميّة، ليس فقط في "ألو حياتي" بل في الاتجاه النسوي تحديداً، فالرجل والمرأة لا مساواة بينهما، حيث إنّ الرجل من المريخ والمرأة من الزهرة، وما بينهما اختلاف طبائع لا قدرات، والمساواة في "ألو حياتي" تمثل تعدّياً على قانون العدالة، فنجد أنّ أبي اللمع لم تستفد من دراستها للحقوق إطلاقاً إلا برستيجاً واهياً، وعلى قول المثل "أسمع جعجعة ولا أرى طحيناً!".
في المقابل، نرى المجذوب يخاف الترك والهجران، إذ إنّ طفله الداخلي الذي هُجر مبكراً قد عكسته ضده وعليه أبي اللمع نتيجة ما تحمل العلاقة من معاني توأم الشعلة (علاقة قدرية تطهيرية)، فنراه مستعجلاً للالتحام، وقد لا يكون على وعي ليعرف أن الإلتحام هذا قد يكون لحام حديد لا إلتحام لحم، في حين نرى أبي اللمع تخاف الرفض، وتحديداً رفض المجتمع لها، كونها تعاني من عقدة نقص جرّاء ظروفها الاجتماعية؛ كلها حسابات خلقتها العقد النفسية للطفولة، وكلّ طفل منهما على حق ولكن من الغريب والمزعج تعميم النموذج هذا ليكون أنموذجاً مثالياً للحب والتواصل بين الشريكين.
إن أنموذج ارتباطهما في "ألو حياتي" لا يجب أن يخضع لمنطق الوقت ولا لمنطق المساواة ولكنه في الحقيقة يجب أن يخضع لمنطق الشفاء والتشافي الحرّ من الماضي، وتحديداً عقدتيّ الهجر والرفض؛ ما تجعل الأولى المجذوب في حالة مطارد والأخرى تجعل من أبي اللمع في حالة الهاربة، فنجد أنّ أفضل قرار في هذا الوضع المأزوم هو الانفصال بغية التعافي ليعودا في هيئة اختيار – اختيار أي اختارها واختارته فيصير الرابط بينهما أشد وأوثق عرى.
الزواج ليس برواية شرقية ولا غربية، إنما في حقيقتها واقعاً شطرنجياً تتوزع على رقعته الخطى والمسؤوليات
كما أنّ أبي اللمع لمعت في خاطرها فكرة أنّ الحياة الزوجية مسارها مثل مسار استقلالية العازب من حيث الحرية والاختيار المستقل البعيد عن رؤى الشريك، وذلك في الحقيقة من تفكير المثقفين السذّج، فالارتباط هو سردية من حبس لروحين تكفيراً عن خطيئة الوحدة والتوأم المنشود، فالزواج ليس برواية شرقية ولا غربية، إنما في حقيقتها واقعاً شطرنجياً تتوزع على رقعته الخطى والمسؤوليات؛ واللافت في لعبة الشطرنج تلك أنّ اللاعبين في جيش واحد، فلا يقول الجندي لآخر "كش ملك" بل يشكلون فريقاً مهمته أن يقول "شك ملك في المربع الصحيح".
كما نرى أبي اللمع تتميّز بسلوك سام، إذ تمنع عن المجذوب الحب والعاطفة عند الخلاف؛ يعني حبها مشروط بالاتفاق الذي ترتضيه هي! ونتيجة ذلك يرتبك المجذوب وتتعقد خطى تثبيت "الملك في المربع الصحيح"، فيخسر الجيش أمام العدو، وهو ذلك الطفل الداخلي القابع فينا كالذئب الخفي.
في النهاية لم تقبل أبي اللمع بالمجذوب زوجاً لها بالتخلي عن عنادها إنما لتشعر بالمرغوبية كونها فقدت كلّ من تحبه فاختارت المجذوب كفعل أناني وضيع، ولو كان للمسلسل جزء ثانٍ لرأينا فشل العلاقة بينهما كرؤية لها أبعادها النفسية والاجتماعية، ما يدفعنا إلى تبني المنطق الصحيح للارتباط هو ضرورة التشافي من جراح الطفولة بدلاً من منطق "ألو حياتي" الذي يدفع إلى رفع شعار العناد قوة ثم يتطوّر عبر تاريخ العلاقة، ليصبح حزباً في ثورية الحب، رافعاً يافطة في الفضاء "ألو إجري"!