عن شهوة الكلام والخوف من الاستبعاد

22 مارس 2021
+ الخط -

"هو السؤال إنت ليه موجود أصلاً على club house، هو العمر بعزقة يا عم انت؟". هكذا قلت لصديقي الأصغر مني سناً والأكثر حماساً لمستجدات الأمور، حين سألني مستنكراً: "إنت ليه وإزاي مش موجود على club house؟".

والـ club house إن لم تُحِط به خِبراً أو لم تكن من أهل "الآي فون"، تطبيق يتيح لمن لا يعرفون بعضهم بشكل مباشر إذا تلقوا دعوات للانضمام إلى التطبيق أن يلتقوا على الإنترنت في غرف للمحادثة والدردشة، تشبه ما كان يجري في بدايات انتشار الإنترنت في غرف البالتوك سيئة السمعة، ولكن مع تنظيم أكثر لقواعد تبادل الكلام، أو هذا ما يقوله مستخدموه، لأني لم أقم بتحميل التطبيق برغم أنني تلقيت الكثير من الدعوات للانضمام إليه، لكنني لم أفعل حرصاً على الوقت الضيق الذي يكفي بالكاد لأداء ما أنا ملتزم به بالفعل في عملي وتجاه أسرتي، لأخصص ما تبقى من وقت لمتابعة الأخبار والتعليقات عليها في مواقع التواصل الاجتماعي، أو الدردشة مع الأهل والأصدقاء الأقرب للنفس في تطبيقات الكلام المتاحة، والتي لولاها لأصابنا الجنون في شهور التباعد الاجتماعي الثقيلة على القلب.

ما لفت انتباهي في ردود فعل العديد من الأصدقاء على اعتذاري عن قبول دعواتهم، هو استغرابهم الشديد من عدم اهتمامي بالتعرف على التطبيق الجديد ولو على سبيل التجربة، لأن "الواحد لازم يبقى متابع على الأقل اللي بيحصل" كما قال صديق لم يتقبل منطقي الذي يرى أن "الواحد لازم يبقى متابع ما هو مهتم بمتابعته، لأن المتابعة من أجل الإحاطة علماً بكل جديد مهلكة للوقت والجهد في أيام ليس لجديد التطبيقات والتريندات فيها نهاية. صديق آخر ظن أنني قلق مما قيل عن ثغرات التطبيق الأمنية، فقلت له إن من يقوم بتحميل تطبيق زووم لا يحق له أن يشكو من الثغرات الأمنية لسواه، وأحدهم أخذ يعدد أسماء أصدقاء أحب صحبتهم سيمكنني التطبيق من أن ألتقي بهم لنتحاور وندردش على الهواء، فقلت إنني أفضل أن نفعل ذلك في مكالمات هاتفية نكون فيها على راحتنا دون أن يتحول حوارنا إلى عمل استعراضي حتى لو لم نقصد ذلك.

حتى تنتهي نشوة الاحتفاء بتطبيق (نادي البيت) وتبدأ نشوة الاحتفال بتطبيق جديد، ستظل دنيا مواقع التواصل الاجتماعي دنيا عجيبة غريبة لم نشهد لها مثيلاً من قبل

وحين حدثتني صديقة عن المتعة التي سأفقدها لو لم أدخل على بعض غرف الهلس اللطيف المريح للأعصاب، قلت لها إنني متأكد أنني سأحصل على جرعات أفضل وأضمن منه في قوائم المشاهدة المتراكمة على تطبيقات مشاهدة الأفلام والمسلسلات، ثم قلت لها مداعباً إن ما تكتبه كل يوم في عشرات التغريدات عما يدور في غرف التطبيق التي تتنقل فيها طول الليل يكفيني وزيادة. أما صديقي المهتم بالشأن العام ـ أكثر من اللازم ـ فقد أخذ يذكرني بأهمية الحوار مع الفرقاء والنظراء للتداول في شأن أزماتنا المعاصرة وسبل الخروج منها، فقلت له إنني بذلت الجهد الكافي في هذا المجال طيلة العقود الماضية، وأنني متنازل له عن نصيبي من الحوار، وسأعتمد على كرمه لكي يدلني على سبيل الخروج حين يتم الاتفاق عليه، إلا إذا كان الخروج سيكون مقصوراً على المشاركين في التطبيق، وعندها سأفكر في الأمر لكيلا أشعر أنني قصرت في حق أسرتي.

حين تكررت ردود أفعالي الباضنة والمخيبة للطف الأصدقاء الداعين إلى "نادي البيت" ـ طبقاً لترجمة أحد الأصدقاء الذي كان ألطف من صديقة أخرى تسميه نادي الكلاب ـ تناقصت الدعوات الموجهة لي حتى انعدمت والحمد لله، ومع مرور الوقت عرفت من خلال ردود الأفعال التي يكتبها بعض الأصدقاء على الفيس بوك وتويتر أن فرحهم الشديد بالتطبيق الجديد قد تضاءل، لأنهم لم يجدوا فيه المنبر الأمثل لإدارة حوار عقلاني ورشيد، أو المنفذ الأفضل لهلس تشتفي به الأرواح، في حين تضاعفت فرحة أصدقاء آخرين به بعد أن تمكنوا من تحويله إلى منفذ يشبع سعيهم للتواصل مع راغبين في التحاور حول قضايا محددة، يتبادلون فيها خبراتهم أو تجاربهم، أو الاستمتاع بالقدرات الكلامية لبعض المشاركين الذين أصبحوا مع الوقت نجوماً للتطبيق الجديد يقصدهم الناس لذاتهم إما مستمتعين أو محاورين أو محفَّلين ساخرين.

سبق أن حدث ذلك مع تطبيق (تيك توك) الذي وجد فيه الملايين عبر العالم متنفساً رائعاً لتفجير طاقاتهم الفنية المكبوتة في أيام العزل الكئيبة، في حين انشغل ملايين آخرون بالسخرية من المواد التي يرونها على التطبيق، ليجدوا في التأليس والتريقة متعة لا تقل عن متعة المشاركين بالفيديوهات، وخرج الكل مرضياً من التجربة لأنه وجد فيها ما يشبع احتياجاته، وهو ما حدث من قبل على فيس بوك وتويتر وإنستجرام وغيرها من التطبيقات التي ستجد فيها من يستخدم حسابه للتواصل مع أصدقائه ومعارفه فقط، وستجد من يرسل استشارات استغاثة للآخرين الذين لا يعرفهم عبر صور أو رسومات أو كلمات لعله يجد في التواصل معهم ما لم يجده مع الأقربين، وستجد من يستمتع بمضايقة الآخرين وتطليع دينهم والبضن عليهم، ومن يجد متعته في تبليكهم وإماطتهم عن الطريق.

ستجد هذه الأنماط المتقاربة من السلوك في كل التطبيقات والمنصات التي نطلق عليها اسم (مواقع التواصل الاجتماعي)، وهو اسم دقيق لو أقرّينا بحقيقة أن ما تقدمه لنا هذه المواقع من "تواصل اجتماعي" لا يعني بالضرورة الود والتآلف والتقارب والحوار والبحث عن المشتركات، بل يشمل أيضاً العداوة والبغضاء والتناكش والتنابز بالألقاب والأديان والمواقف والآراء والأصول الاجتماعية والاقتصادية وتحديد الاختلافات رغبة في التمايز والتضاد، لكن أهم ما تقدمه لنا هذه المواقع هو إشباع شهوة الكلام التي تسكننا جميعاً كبشر، ومساعدتنا على التخلص من إحساسنا بالوحدة والنبذ والانعزال، بعضنا يفعل ذلك ببحثه عمن يشبهونه لكي يصبح أقرب منهم ويشاركهم فيما يحبه ويهواه، وبعضنا يفعل ذلك ببحثه عمن يكرههم ويعاديهم، ليوصله ذلك في أغلب الحالات إلى شركاء في تلك الكراهية، وحتى الذين يستخدمون هذه المواقع لإظهار تميزهم وأفضليتهم على الجميع، لا يمانعون من وجود معجبين بجلافتهم وعدائيتهم، وهو ما يفلت منهم حين يتعرضون لضغط ما من آخرين أشد منهم قدرة على التحفيل أو العدائية.

وحتى تنتهي نشوة الاحتفاء بتطبيق (نادي البيت) وتبدأ نشوة الاحتفال بتطبيق جديد، ستظل دنيا مواقع التواصل الاجتماعي دنيا عجيبة غريبة لم نشهد لها مثيلاً من قبل، وعالماً حافلاً كلما تصورنا أننا جئنا بآخره، نكتشف أن حدوده تواصل التوسع والزحف، فيستبد بنا فضول البحث عن الجديد والمثير، فلا نقنع بما أنسنا إليه وألفناه، وحين نجد من يرضى بقليله، نلومه ونتهمه بالعجز وقصور السعي وعدم الرغبة في التجديد، ونشعر بالأفضلية عليه لأنه يرفض "الأبديت" والتطوير، ولا يدرك خطورة التخلف عن مواكبة الجديد في كل شيء، خاصة وأن معرفة الجديد والإحاطة به لم تعد مسألة كماليات، بل أصبحت ضرورة للترقي الاجتماعي والوظيفي، ووسيلة للتنافس في الصراع الطاحن الذي يبحث فيه الجميع عن مكان تحت الأضواء التي لم تعد مرتبطة بكفاءات توجد لها شروط ومحددات، بل أصبحت مرتبطة بعوامل تتغير كل لحظة حسب حركة "التريند" الذي تحدده أمزجة متغيرة لا يعلم أحد على وجه اليقين متى تتقارب ومن ماذا تنفر، وكيف يمكن أن تركبها في لحظة ما، وتركبك هي في اللحظة التالية؟

صحيح أنك تستطيع مقاومة هذه الملاهي الصاخبة المهلكة التي أصبحنا مضطرين لأن نعيش في قلبها، بالتمسك بما تراه أكثر أصالة وحقيقية، وبالانشغال بما هو أبعد من اللذة اللحظية، والاهتمام بالتحصيل والمعرفة والتسلية والإبداع، والتساؤل عن جدوى الأفعال قبل التورط فيها، لكنك تضحك على نفسك لو قررت أن تتعالى على كل ما يحيط بك وتتصور أنك أكبر وأهم منه، لأن الحياة قادرة بمنتهى الرزالة على تذكيرك بقدراتها الخارقة في السخرية من كل من يتصور أنه يمتلك وصفة مضمونة للتعامل مع خوازيقها، ولذلك ليس أمامك إلا أن تحاول الجمع بين مقاومة شهوة التواجد طول الوقت في كل ما يحيط بك، وبين مقاومة الرغبات النزقة التي قد تؤدي بك إلى الابتعاد عن كل ما يستجد، لتجد نفسك منعزلاً عن جميع الآخرين الذين يمكن أن يكون في صحبتهم بعض الخلاص ولو لبعض الوقت، ولن يكون ذلك سهلاً بالطبع حين يظهر تطبيق جديد كل يوم وتريند جديد كل لحظة، لكن ذلك لا يعني ألا تحاول، وصدقني أو لا تصدقني، لن تكون المحاولة مستحيلة، بدرجة أنك تقرأ الآن لشخص قاوم رغبته العارمة في الكلام الذي يحبه بشدة، فقط لكيلا يجور على وقت يمكن أن يقضيه فيما يراه أهم وأجدى، ومع أن كل أصدقائي يرون ذلك الاختيار غريباً إلا أنني لا أشكو منه حتى الآن، فمن يعلم طبيعة ومميزات التطبيق الجديد الموجود في جراب الإنترنت والذي ربما يكون أقوى من أي مقاومة؟

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.