عن "الرجولة المناصرة للنسويّة"
يحلو لعددٍ من الرجال أن يعرّفوا أنفسهم بأنّهم ''رجال نسويّون"، أو "رجال مناصرون للنسويّة" (pro-feminist men)، وهو تحوّلٌ لافتٌ للنظر في مستوى الخطاب، إذ ليس من السهلِ على الرجل المستقرّ في 'العالم الناطق باللغة العربية'' أن يعلن أنّه يتبنّى النسويّة. والرجل العربيّ/ المسلم/ المسيحي/ اللادينيّ.. إذ يتموقع "نسويًّا"، يغدو حديثَ الناس، ويُعرّض نفسه لمجموعةٍ من المآزق والمخاطر، ويكون في "مرمى الهدف"، فتُصوَّب نحوه سهامٌ كثيرة ترشقه بشتّى النعوت (مخنّث، مثليّ، ديّوث...)، وتشكّك في هُوّيته، إذ كيف لرجلٍ حباه الله بكمالِ العقل وحُسنِ التدبير أن ينتسب للنسويّة التي فقدت دلالتها وحمولتها السياسية لتتحوّل عند أغلبهم إلى "كلمةٍ سيئةِ الذكر". فأن تكوني نسويّة معناه أن تكوني "منفلتة"، و"سيئة السمعة"، و"منحلّة أخلاقيًا"... وهو أمر يُشَرعِنُ استهدافكِ من كلّ مُمثّلي "الذكورة المهيمنة": هذا يتنمّر ويُهدّد، وذاك يشتم ويلعن...
غير أنّ هذه الجرأة في اتخاذ قرار الإعلان عن تبنّي النسويّة، والمشاركة في المسيرات النسائية ورفع الشعارات المناهضة للنظام البطريركي والهيمنة الذكورية والتمييز و... لا يمكن أن تكون دالة على تغييرٍ جوهريٍّ في مستوى الوعي والقناعات، ونجاح مطلق في "مجاهدة النفس" حتى تتخلّص الذات الذكورية مما علق بها من "أدران''. وعديدة هي الاختبارات التي مرّ بها رجال زعموا أنّهم ''نسويّون"، فتبيّن بسرعة أنّهم ليسوا كذلك. نشير في هذا الصدد إلى أولئك الذين نزلوا إلى الشوارع في مناسباتٍ كثيرة، قادتْ فيها النسويّات مسيرات للمطالبة بسنِّ تشريعاتٍ جديدة، أو للتنديدِ بالعنف على أساس النوع الاجتماعيّ أو... وتبيّن أنّ الذي يحرّكهم ليس الإيمان بالحريّة ومواطنية النساء والمساواة بين الجنسين والعدالة الجندرية، بقدر ما هو الحرص على "حماية النساء" من ''الظلاميين" وممارسة المراقبة، أي تفعيل"القوامة" عن وعي أو عن غير وعي. يُضاف إلى ذلك رفض أغلبهم "التناصف" (Parity) العمودي والأفقي، باعتباره قاعدة في العملية الانتخابية.
عديدة هي الاختبارات التي مرّ بها رجال زعموا أنّهم ''نسويّون"، فتبيّن بسرعة، أنّهم ليسوا كذلك
ولا نعدم أمثلة أخرى دالة على التناقض بين الشعارات والعمل، وبين الخطابِ والفعل. فعند طرحِ قضيّة إعادة توزيع الأدوار بين الجنسين بطريقة عادلة تجسّد التشاركية المسؤولة، رفض أغلب "الرجال النسويّين" التزحزح عن قناعتهم ومراجعةِ منظومةِ القيم التي نشأوا عليها، وتغيير الصور النمطية السائدة. وبدت هذه المواقف أكثر وضوحًا مع مطالبةِ الحركات النسويّة في تونس والمغرب بالمساواة في الإرث، إذ اصطف أغلب "الرجال المناصرين للنسوية"، و"بقدرة قادر"، وراء المدافعين عن الشريعة و"ثوابت الإسلام"، رافضين هذا "المطلب المشطّ" الذي سيؤدي إلى حرمانهم من عدّة امتيازات، بل إنّهم باتوا يستشهدون بالآيات القرآنية الخاصّة بأحكام الميراث في كلِّ نقاش. ومع مرورِ الزمن، صارَ التساؤل عن مدى انخراط الرجال في الفكرِ النسويّ مشروعًا بعد استشراء أشكالِ من العنف (المادي واللفظي والمعنوي والرمزيّ والرقميّ) ضدّ الشابات والنساء واكتفاء أغلبهم بالفرجة أو التبرير، فظهر التحيّز الجندري والتضامن الذكوري.
واهم من يعتبر أنّ مجرّد الإعلان عن الانتماءِ إلى النسويّة، باعتبارها حركة من بين الحركاتِ الاجتماعية التي تُناضل من أجلِ تغيير الواقع وانتزاع مجموعة من الحقوق الإنسانية للنساء، يكفي حتى يُعدّ الرجل مناصرًا للنسويّة، وأنّ التموقع "نسويًّا" هو تقليعة تضمن العبور إلى النشاطية النسوية والإفادة من بعض المصالح. فأن تكون رجلًا مناصرًا للنسويّة معناه أن تكون حاملًا القيمَ التي تجسّد هذا الانتماء، ومرسّخًا لها في مجتمعٍ لا يؤمن بالثقافة الحقوقية، وأن تكرّس ممارسات وسلوكيات وخطابات تُخبر عن المسار الذي قطعته والاختبارات التي مررتْ بها، حتى تكون بالفعل نسويًّا، وفي قطيعةٍ تامة مع الرجولة المهيمنة والرجولة المتواطئة مع النظام البطريركي.
إنّ النسويّة نضالٌ سياسي مستمرّ ضدّ كلِّ الأنظمة والبنى المرسّخة للهيمنة والاستغلال واللامساواة واللاعدالة، وبهذا المعنى، فإنّها ليست حكرًا على النساء. إنّّها حركة مرحبّة بالجميع، شريطة أنْ ينطلقوا في مسارِ التحرّر، والمراجعات، وإعادة النظر في "الثوابت" و"المسلّمات" و...