إيمان خليف بين سردية الضحية وسردية المقاومة

07 اغسطس 2024
+ الخط -

 

ليس من السهل على الشابَّات والنساء ممارسة مهن، والاضطلاع بأدوار تَنسبُها الثقافة إلى الرجال، وليس من السهل عليهنَّ أيضًا، اختراق فضاءات بما فيها الفضاء المعرفي (وخاصَّة الديني) التي يحتكرها الرجال. فهؤلاء يعتبرون أنَّ كلَّ ما له صلة بالسلطة والموقع وتحصيل الامتيازات وبناء الرجولة هو "ملك خاص" غير قابل للتفريط فيه بل ينبغي الذود عنه بكلِّ شراسة. وعلى هذا الأساس كان منع النساء من دخول كليَّات الطب والهندسة وغيرها وممارسة الرياضة.

فمنذ تأسيس الألعاب الأولمبيَّة أعلن Pierre de Coubertin بيار دي كوبارتان سنة 1896 أنَّ مكان النساء في الرياضة هو تقديم الجوائز وليس المشاركة في الألعاب والتنافس من أجل الألقاب و... وبالرغم من تصميم النساء على ممارسة الرياضة فإنَّ ما كان مسموحًا به آنذاك، هو الرياضات التي تحافظ على المعايير الاجتماعيَّة والجندريَّة والطبقيَّة كرياضة التنس وغيرها من الرياضات التي تُحافظ على الأنوثة المعياريَّة ولا تزعج الرجال.

أمَّا ممارسة النساء رياضات تُعتمد لبناء "الرجولة الكاملة" كالملاكمة والتايكوندو وكمال الأجسام فلم تكن مستساغة لأنَّها تمثِّل تهديدًا واضحًا للنظام الاجتماعي الحريص على تثبيت الحدود بين الأنوثة والذكورة، وامتثال الجميع للمعايير الاجتماعيَّة والجندريَّة.

ليست الملاكمة الجزائريَّة إيمان خليف وفق هذا التصوُّر، إلَّا امرأة من ضمن نساء أخريات تمرَّدن على المجتمع الأبوي الذي يُراقب النساء ويُحاسبهنَّ ويتدخَّل في اختياراتهنَّ على مستوى الهيئة واللباس والسلوك والخطاب وأنواع الرياضات ووسائل التسلية... ويتعامل مع من خرج عن هذه المعايير بعنف فيمرّ من المراقبة إلى العقاب.

أمَّا الإعلاميُّون والدارسون الغربيُّون فقد درجوا على تفسير أسباب مصادرة حقِّ النساء في ممارسة الرياضة في البلدان الإسلاميَّة بأنَّها تعود إلى الدين والخصوصيَّة الثقافيَّة. غير أنَّ ما حدث لإيمان في الألعاب الأولمبيَّة نقل الجدل إلى سياق جديد سِمته الصراعات التي يتقاطع فيها الجندر مع الدين والطبقة والعنصريَّة...

تلقَّت إيمان خليف أقسى الضربات ولاقت حملات عنصريَّة وحملات تشويه انتقلت من الفضاء المادي إلى الفضاء الرقمي

ففي فرنسا بلد "الحريَّة والنور والملائكة" تلقَّت إيمان خليف أقسى الضربات ولاقت حملات عنصريَّة وحملات تشويه انتقلت من الفضاء المادي إلى الفضاء الرقمي فكان العنف سيِّد الميدان. ولا يمكن أن تُفهم هذه الحملات خارج سياق المركزيَّة الأوروبيَّة التي تعتبر نفسها حامية القيم ومحدِّدة صفات الأنوثة والذكورة... ولا خارج التصميم على تسييس الرياضة، يكفي أن نُذكِّر بموقف رئيسة الحكومة الإيطاليَّة "ميلوني" وتصريحاتها المنحازة للملاكمة الإيطاليَّة والمنخرطة في خطاب الحث على الكراهية. ولا يمكن التغافل أيضًا عن سياق حرب الإبادة التي تشنُّها الدولة المارقة على فلسطين وما كشف عنه انحياز أغلب الدول الغربيَّة من أزمات هيكليَّة، لعلَّ أهمَّها انهيار منظومة القيم الإنسانيَّة ونسف إيطيقا الرياضة فضلًا عن دور اليمين المتطرِّف في تأجيج خطاب الكراهية في أغلب البلدان الأوروبيَّة والولايات المتَّحدة الأميركيَّة.

ولذا اتَّخذ النقاش أبعادًا متنوِّعة فظهر الخطاب العلمي الذي يُقدِّم تعريفًا للأنوثة، ويفسِّر التغيُّرات الطارئة على الجسد الأنثوي بعد ممارسة رياضات "صلبة"، ولمسنا دفاعًا عن الأنوثة الأصليَّة في مقابل الاسترجال الذي يجعل المتباريتين في سياق يغيب فيه تكافؤ الفرص، ووجدنا في خطابات التعاطف والمؤازرة ميلًا غير مقصود نحو بناء سرديَّة الضحيَّة. فإيمان هي ضحيَّة الغرب الإمبريالي، والنيوليبراليَّة وبنى الاستعمار الخفي... ومن ثمَّة كان التحليل موجَّهًا نحو الكشف عن بنى الاضطهاد والقمع وتفكيك علاقات القوَّة وبناها التي تتجلَّى في السلوك والخطابات وغيرها.

غير أنَّ هذا الخطاب الذي يتنزَّل في إطار شرعنة الهشاشة يفضي إلى تسليط الضوء على العنف المسلَّط على ضحايا بدل التركيز على خطاب المقاومة وأشكال التحدِّي. فقد أبانت الحملة المستعرة على إيمان خليف وعي فئات من المغاربة والمصريِّين وغيرهم بواقع الهيمنة الأوروبيَّة التي باتت تفرض معايير أبويَّة واستعماريَّة وتُحدِّد نمط الأنوثة المقبولة والأنوثة المرفوضة لا سيَّما عندما تساهم هذه الأنوثة اللامعياريَّة في بناء شخصيَّة البطلة المنتمية إلى فضاء عربي/مسلم. كما أنَّ هذه الحملة عرَّت مشاعر الخوف من زعزعة المعايير السائدة اجتماعيًّا وجندريًّا، خاصَّة إذا ربطنا هذا الحدث بانطلاق الألعاب الأولمبيَّة باحتفالات عبثت بالحدود ومنحت "الكويرين" المرئيَّة.

إيمان خليف تُربك بالفعل، موقع حارسي/ات النظام الأبوي الذين يمارسون الضبط الاجتماعي والرقابة والعقاب وتؤكِّد وجود فروق بين النساء بيولوجيَّة واجتماعيَّة متعدِّدة وأنماط من الأنوثة تنسف التنميط... إيمان تفضح أيضًا المفارقات والتناقضات وسياسات الكيل بمكيالين في البلدان الغربيَّة.

آمال قرامي
آمال قرامي
أستاذة دراسات النوع الاجتماعي بالجامعة التونسية، ناشطة حقوقية وكاتبة.