عمّا يفعله الخوف بنا
عزيز أشيبان
يستقرُ الخوفُ في دواخلِ الإنسان ويسطو على إرادته وطريقة تفكيره وحالته الذهنية والنفسيّة، ويستوطن الشعورَ واللاشعور، كما يؤثّر في السلوكِ وردودِ الفعل، ويظلّ متحرّكًا، نشطًا، وفاعلًا ومؤثّرًا في عالمه الخارجي.
من جهةٍ أخرى، تتباينُ نوعية مقاربة الخوف، بين الشعور والتفسير البيولوجي والحالة الذهنية والغريزة، وغالبًا ما يقع الخلط بين الخوف والقلق والضغط، ولا نستطيع تحديد حقيقة الإحساس الذي يستفردُ بنا في أوقاتٍ معيّنة. من هنا نطرح السؤال التالي: هل الإحساس بالخوف مُلازم للإنسان، يتذبذب بين الظهورِ والفتورِ أم يتعلّق الأمر بإحساسٍ ظرفيٍ عابرٍ يطفو إلى الواجهة مع حضور عناصر معيّنة تحفّز انبعاثه؟
بكلِّ تأكيدٍ، في مواجهةِ الخوف نستشعر الصعوبة والهزيمة مسبقًا، باعتبار استحالة الإحاطة به وصعوبة تفكيك عناصره وإدراك كيفية اشتغاله، فما بالك بعمليةِ تدبيره والسيطرة عليه!
في الواقع، يتسيّد الخوف مشاهد متناقضة ومتباعدة، ويظلّ حاضرًا بقوّةٍ، حيث تستشعره الذات في أوقاتِ الفرح والحزن، عند الفشل والإخفاق، وعند الكسب والفقد، وفي أوقاتِ الحاجة والإشباع. وهنا، نميلُ إلى القول إنّ معظمنا يخاف من المستقبل باعتباره المجهول غير المتوقّع، والذي يحمل في طياته التقلّبات والتغيّرات، ونلتمس السوداوية والتشاؤم دون سابق إنذار أكثر منه الإيجابية والتفاؤل.
قد يكون الإحساس بالخوف هو المحرّك الحقيقي للبحث عن الأمن والاغتناء والتطوّر المستمر
وفي خضم هذا النزوع، تتعدّد التجليّات وتتنوّع، إذ على سبيل المثال لا الحصر، نخافُ من الفشل قبل الإقدامِ على المبادرة، نخاف من الفكرةِ قبل الخوض في محاولةِ تنزيلها وبلورتها إلى واقعٍ ملموس، نخافُ من زوالِ النعم، نفرّ من شبحِ الوحدة، يُراودنا الارتياب من فشلِ علاقةٍ إنسانيّةٍ معيّنة، نهاب الفقر، ونخاف من إمكانيةِ فقدان شخصٍ عزيز. ثمّة نزوع غريب نحو توقّع حدوث الأسوأ في غياب أيّ سببٍ موضوعي أو بوادر حسيّة. لماذا إذن هذا الإلحاح على الميل نحو السلبي عوض الإيجابي؟ هل جُبِلت النفس البشرية على هذا الميل السلبي والانهزامي؟
ومع ذلك، قد يكون الإحساس بالخوف هو المحرّك الحقيقي للبحث عن الأمن والاغتناء والتطوّر المستمر والتماس خيار الكدّ والتوكّل والاجتهاد والاستماتة في الدفاع عن الكرامة والقيم والمبادئ. ربّما يحمل في طياته حسنات وفضائل تخلق الفارق بين الأفراد والجماعات والدول، وتُحدّد المقاماتِ والانتماءاتِ ونوعية الفوارق بين المتقدّم والمتخلّف.
وفي حقيقة الأمر، تقومُ منظومة الأمن القومي على الخوفِ من الغزو والسقوط والتبعية للدول المجاورة أو الدول العظمى، إذ تتأسّس أنساقه على التوجّس والحذر وعدم الاطمئنان للآخر، كما عدم الاستكانة لعلاقاتِ الودِّ وحسن الجوار كيفما كانت قوّتها. وعلى مستوى الاقتصاد، يتحقّق الأمن الاقتصادي من خلال تحقيق الأمن الغذائي والطاقي والمائي من أجل ضمان واستدامة الاكتفاء الذاتي وحماية السيادة الوطنية بمفهومها العميق. نفس المقاربة تهم الأمن الثقافي الذي تتأسّس منظومته على الاستماتةِ في الدفاعِ عن الهويّة الثقافية وممانعة الاستلابِ الثقافي تفاديًا للتقويض والانسلاخ عن الذات والضياع. نفس الهاجس يستقرّ في قلبِ منظومة الأمن السياسي والأمن الروحي.
يُوظّف الخوف أداة ترهيبٍ من أجل إخضاع الأنظمة وتركيع الشعوب وتكريس السيطرة ونهب خيرات البلدان وتغذية العدوانية
فضلًا عن ذلك، نعلم جيّدًا أنّ منظومة الأمن القومي عند بعض الدول تتأسّس على مبدأ التوسّع والتمدّد والسيطرة على الجيران كخيارٍ من أجل الدفاع عن النفس وحمايتها من الغزو والاستعمار باعتبار الحمولة التاريخية والنفسية والذهنية التي تشتغل بقوّةٍ، وتؤثّر بقوّة أيضًا، في خيار التوسّع.
على المستوى الجيواستراتيجي، يُوظّف الخوف كأداةِ ترهيبٍ من أجل إخضاعِ الأنظمة وتركيعِ الشعوب وتكريس السيطرة ونهب خيرات البلدان وتغذية العدوانية. ويتمثّل ذلك في صناعةِ الحروب والنزاعات وتمويل المعارضة وإثارةِ النعراتِ القبلية والدينية وصناعة الأوبئة والحروب البيولوجية والمجاعة والبلقنة.
على نفس المنوال، تُوظّف بعض الأنظمة الديكتاتورية، حيث يفتقد الحاكم للشرعية، سياساتِ بثّ الخوف وترسيخه في النفوس منذ سنٍّ مبكّرة بمعيةِ منظومة التعليم وسياسات الإعلام، وتسترسلُ في تهديدِ الناس وابتزازهم بخطرِ شيوع الفوضى وانهيار الدولة عند الإقدام على إسقاط النظام الذي يُبدي الشطط في استعمالِ السلطة والقمع والاستبداد، خوف السقوط بما يعكس حقيقة افتقاد الثقة في النفس.