صفحات من يوميات لم تكتمل (9)

21 يوليو 2021
+ الخط -

كان لا بد أن أنام جيداً قبل أن أحضر الاجتماع المهم أو هكذا كنت أعتقد، الذي سيبدأ في الثانية ظهراً في مقر دار الشروق في مدينة نصر، حسبي الله ونعم الوكيل في الفلوس التي دفعتها في التاكسي على الفاضي، بالطبع لم أكن أعلم أن المشوار سيكون على الفاضي، حتى الآن لست متأكداً هل سيكون الموضوع في نهاية المطاف على الفاضي أم لا، فنحن لا زلنا في بداية الطريق، لكن أنا ميال للتشاؤم هذه الأيام، ولا يمكن لك أن تلومني.

كان الاجتماع مع المهندس إبراهيم المعلم وأيمن الصياد وأميرة هويدي التي يفترض أن تكون رئيسة تحرير صحيفة (الناس)، وسأكون رئيس التحرير التنفيذي أو (المحرر العام) كما سيكتبون على الترويسة لأنني لست عضواً بعد في نقابة الصحفيين، ولن يسمحوا لخارج على النقابة مثلي أن يكون رئيس تحرير. (33)

منذ البداية لم أشعر بأنني سأتفق على المشروع مع أميرة هويدي، وهي بالمناسبة ابنة الأستاذ فهمي هويدي، هي قادمة من مدرسة مختلفة في الصحافة، من (الأهرام ويكلي)، وأنا قادم من تجارب صحفية مختلفة تماماً عن تجربتها وعن كل ما تمثله تجربة (الأهرام)، هي تفكر بشكل منطقي وأنا كما قال أحد العواذل للمهندس إبراهيم المعلم "أفكر بشكل فوضوي أو عشوائي"، مع أن ذلك ليس صحيحاً، الفكرة كلها في اختلاف المنطق الذي يحكم نظرتنا للأمور، وبالتأكيد نحن مختلفان جداً، فهل سننجح في التعامل مع بعضنا؟ لا أعتقد، حدثت خلافات كبيرة منذ بداية الاجتماع على تحديد الجمهور المستهدف للجريدة، هي تفكر بشكل لم أتعود عليه، تتساءل عن الجمهور المستهدف وأهمية أن يتم تحديده منذ البداية لكي نراعي صياغة الصحيفة بناءً على مواصفاته، أما أنا فأتصور أنني أعرف الجمهور الذي أستهدفه بالفعل، الجمهور الذي عرفته من تجربة (الدستور) ثم تجربة (الجيل) التي لم تدم طويلاً لكنني تعلمت منها الكثير. هي تتصور أن هناك حالة إشباع في السوق في الصحف، بينما هناك نقص فادح في المجلات، وأنا مع أنني عملت في عدة مجلات خلال السنوات الماضية مثل (صباح الخير) و(المصور) و(الكواكب)، إلا أن قلبي لا يزال معلقاً بالصحف، وحين قلت إن تكلفة المجلة ستكون عالية وستكون عائقاً أمام انتشارها، تساءلت أميرة: ولماذا لا تكون المجلة في البداية للنخبة وتستهدف أعضاء شبكة المحمول على حد تعبيرها، بالطبع لم أعلق ولم أقل لها إنني لست معنياً بأعضاء شبكة المحمول، بل أريد "جرنال" يقرؤه الذين ألبستهم مخروقة مثلي، لو كنت قلت ذلك لانتهى الاجتماع وانتهت معه التجربة مبكراً.

شعرت أن أيمن الصياد حاضر الذهن ولديه ما يقوله، سعدت بمتابعته لي بدقة وحديثه عني بلطف، لكنني شعرت أنه يمتلك رؤية نظرية ربما لن تكون مفيدة في إصدار صحيفة مثل التي أحلم بها، صحيفة تكون جماهيرية وممتعة ومفيدة في الوقت نفسه. لأكثر من مرة يتفرع الكلام للحديث عن تجربة (وجهات نظر) التي يعمل مديراً لتحريرها، كنت أريد أن أقول له إنني أقدر تجربة (وجهات نظر) لكنها في النهاية مجلة متخصصة، لا يمكن الاعتماد عليها حين نتحدث عن الوصول إلى جمهور عريض، ليس فقط لأنها حددت منذ البداية من سيقرؤها حين اختارت أن يكون سعر العدد الواحد عشرة جنيهات، معتمدة على اسم محمد حسنين هيكل الذي يكتب لها حصرياً، وأظن أنها تعتمد على الاشتراكات أكثر من اعتمادها على البيع عند باعة الصحف والمجلات، ولا أظن أن هذه صيغة يمكن أن تؤدي لاستمرار مجلة لفترة طويلة، وربما أكون مخطئاً. المهم أنني قررت أن أتحلى لأول مرة بفضيلة الاحتفاظ لنفسي بكامل آرائي، ولا أسمح بتفرع النقاش بعيداً عن موضوع الصحيفة. أحياناً أسأل نفسي: هل كنت محقاً حين قمت بعمل عدد زيرو من الصحيفة على حسابي، لكي تتضح الرؤية التي أرغب فيها. صحيح أن ذلك لم يكلفني الكثير ببركة تعاون حمدي عبد الرحيم ومحمد عبد الرشيد صاحب اللمسات الفنية الساحرة، لكن ما أحمله هو في النهاية مجرد بروفات وليس عدداً مطبوعاً بالفعل، هل كان من المنطقي أن أبذل كل ذلك الجهد في مشروع ربما لن يرى النور؟

أصبحت أحلم بترك الصحافة كلها على بعضها، ولا زلت أعيش الشهر بشهره، وأدخل في مشاريع كبيرة وأطارد أحلاماً عريضة، وأنا لا أضمن دفع الإيجار أول الشهر

مع استمرار النقاش، أتفهم شعور أميرة هويدي ورغبتها في إثبات أنها لن تقبل بأن يكون اسمها مجرد زينة على الترويسة، لن يقبل بذلك أي صحفي يحترم نفسه، وفي الوقت نفسه لن يكون بمقدوري أن أضع اسمي على الصحيفة كرئيس تحرير، ولن أقبل أن يتم التنازل عن الرؤية التي أفكر فيها لأتوجه إلى جمهور لا أعرفه ولست مهتماً بالوصول إليه. ظللت ـ ولا أزال ـ أبحث في عقلي عن صيغة وسط، لكن هل أجدها، شعرت أن ذلك صعب بعد نقاشات حادة وعبثية واجتماع استمر لمدة ثلاث ساعات، أبرز ما تمخض عنه هو تحديد موعد الصدور في أول شهر سبتمبر المقبل، لكي يكون هناك إيقاع في العمل، أقول لنفسي إن ذلك تقدم ملموس يستحق عناء المشوار والنقاش وأجرة التاكسي، لكنني أذكر نفسي بأن الكلام ليس عليه جمرك وأن تركيبة المشروع الحالية تجعل صدوره من الصعب إن لم يكن من المستحيل. (34)

مع أن نتيجة الاجتماع لم تكن سيئة، نظرياً على الأقل، إلا أنني خرجت من الاجتماع محبطاً، كنت جائعاً جداً، رفضت دعوة المهندس إبراهيم المعلم لكي نتغدى سوياً لأنني كنت محبطاً ومرهقاً، وأحتاج إلى أن أختلي بنفسي قليلاً، بحثت عن مطعم قريب فوجدت في ضهر طيبة مول القريبة من دار الشروق مطعم فول وطعمية تغري رائحته بأكلة حلوة، يبدو أنه يستهدف عمال المول والمناطق المحيطة به. أخذت من عنده تشكيلة سندوتشات بديعة، جلست على رصيف يواجه المطعم وأكلت بنهم وتلذذ، ضحكت من قلبي حين تخيلت لو عبر الآن المهندس إبراهيم ومعه أميرة وأيمن الصياد، لا أتصور أنهم سيستغربون المشهد. تذكرت المرة التي ذهبت فيها أيام (الدستور) لعمل حوار مع رئيس نادي القضاة المستشار مقبل شاكر، وحين وصلت إلى مقر النادي شعرت بالهبوط لأني لم أفطر منذ الصباح، فقررت أن آكل سميط وبيض وجبنة من بياع سرّيح وجدته واقفاً بالقرب من النادي، وحين رأيت المستشار مقبل شاكر ينزل من سيارته متجهاً إلى النادي، فكرت أن أعزم عليه لكي يكون بيننا عيش وملح ـ حرفياً ـ قبل أن نبدأ الحوار. لم يأخذ باله مني لحسن الحظ، وحقق الحوار هدفه بكفاءة.

كان القضاة يومها غاضبين من تحقيق نشرته (الدستور) عن معايير اختيار القضاة أو وجود قضايا فساد في أوساط القضاة، لم أعد أذكر، كان ذلك سنة 1997، وقرر نادي القضاة أن يقدموا شكوى رسمية إلى رئاسة الجمهورية تطالب بمعاقبة (الدستور)، لكن عصام إسماعيل فهمي رئيس مجلس إدارة (الدستور) نجح عن طريق علاقاته ببعض القضاة الذين كانوا يحترمون أحمد الخواجة نقيب المحامين ومؤسس (الدستور) في إقناع رئيس النادي بعمل حوار مع (الدستور) للرد على كل ما جاء في التحقيق، وفي الليلة التي سبقت عمل الحوار استدعاني عصام فهمي إلى مكتبه وقال لي إنه طلب من إبراهيم عيسى أن أقوم بعمل الحوار، لأنه يثق في شطارتي وحسن تصرفي وأنني سأتمكن من "مرهمة" رئيس نادي القضاة، كما أفعل مع الكتاب الغاضبين من اختصار مقالاتهم، ووعدني بأن يزيد مرتبي إذا نجحت في مهمتي، ومع أنني نجحت في مهمتي إلا أن الزيادة لم تحدث إلا بعد ستة أشهر.

أغلقت (الدستور) وباظت تجربة (الجيل) وخابت أحلامي في العمل بشكل مستقر في (صباح الخير) و(المصور)، وأصبحت أحلم بترك الصحافة كلها على بعضها، ولا زلت أعيش الشهر بشهره، وأدخل في مشاريع كبيرة وأطارد أحلاماً عريضة، وأنا لا أضمن دفع الإيجار أول الشهر، وماله، أما نشوف آخرتها.

...

هوامش على اليوميات:

ـ33ـ: برغم كل الصحف والمجلات التي كتبت فيها، إلا أنني لم أسع للتعيين في أي منها، وحتى الآن لم أحصل على عضوية نقابة الصحفيين، بل حصلت على عضوية نقابة السينمائيين شعبة السيناريو.

ـ34ـ: كنت محقاً في تخوفي، فقد كان ذلك الاجتماع هو الأول والأخير، بعد أن قال لي المهندس إبراهيم المعلم إن الظروف الأمنية لن تسمح بإصدار الصحيفة، وأنه سيكون من الحكمة أن ننتظر فترة أطول، ومع أنني التقيت بالصديقة أميرة هويدي بعد ذلك في مناسبات لاحقة، إلا أنني لم أسألها عن رأيها في ذلك الاجتماع، ولا زلت أحتفظ حتى الآن ببروفات العدد التي أعتز بها جداً، ومن يدري ربما ترى النور يوماً ما.

...

نختم غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.