صعود الاستثمار المؤثّر في عالم التمويل
أشعل العدوانُ الصهيوأميركي على قطاعِ غزّة، وما رافقه من انحيازِ كثيرٍ من المؤسّسات الدولية، وخصوصًا المانحة، النقاشَ حول ضرورةِ الانفكاك من التمويل الأجنبي، أو على الأقل إيجاد أطر جديدة تضمن عدم تغوّل المانحين (وخصوصًا الغربيين)، وفرضهم لسياساتهم التي قد تكون غير عادلة ولاأخلاقية على شركائهم المحليين، أكانوا حكومات أو مؤسّسات أو أفرادا، وذلك في ظلِّ الأوضاع الجيوسياسية القائمة. حيث زادتْ المخاوف من استغلالِ بعض المانحين لقدراتهم المالية لفرضِ سياساتهم المنحازة التي قد تتعدّى على حقوق الفلسطينيين وداعميهم بالمقاومة والتحرّر والعودة، أو تجبر المتعاملين معهم على التطبيع مع الاحتلال، أو اتخاذ مواقف عدائية تجاه أيّ فعلٍ تحرّري.
وتركّز بعض النقاشاتِ الدائرة على نهجين، الأوّل، إعادة تأطير العلاقة مع المانحين وتشكيل جبهاتٍ موحّدة من الشركاء المحليين للوقوف في وجه أيّ تغوّلٍ، مع وضع إجراءاتٍ وسياساتٍ واضحة تبيّن آلية الرد على أيّ تغوّل وكيفية مقاومته إن حصل، ضمن جهود مدافعة جماعية تسخّر الأدوات المختلفة لمواجهة المانحين كندٍّ، ولكن مع البقاء ضمن نفس النموذج الحالي للتمويل الأجنبي مع تغيير في قواعد التعامل.
بينما يركزُ النهج الثاني على البحث عن بديلٍ يسهل عملية الانفكاك من التمويل الأجنبي ولو بعد حين، أو على الأقل يشكّل رديفًا يمكن الاعتماد عليه إن قرّر الشريك المحلّي وقف التعاون مع المانح الأجنبي لعدم توافق الأهداف والقيم أو لأيّ سبب آخر. وفي نطاقِ النهج الثاني والبحث عن بدائل، يظهر الاستثمار ذو الأثر أو المؤثّر (Impact Investing) كأحد هذه البدائل التي تستحق الدراسة وبحث إمكانية تطبيقها في المنطقة. ففي السنوات الأخيرة، برز تحوّلٌ ملحوظ في الطريقة التي يتعامل بها الأفراد والمؤسّسات مع الاستثمار، فبعيداً عن التركيز التقليدي على تحصيل العائدات المالية وتحقيق الأرباح، فإنّ عدداً متزايداً من المستثمرين بات يعطي أولوية للنتائج الاجتماعية والبيئية الإيجابية، حيث يُعرف هذا النهج التحويلي للتمويل باسم الاستثمار ذي الأثر أو المؤثّر، ويأتي في مكانٍ متوسّط بين الاستثمار المسؤول والاستثمار المستدام من جهةٍ، والمانحين التنمويين (Philanthropies) من جهةٍ أخرى.
يهدف الاستثمار ذو الأثر إلى مواءمةِ دوافع الربح مع الالتزام بجعل العالم مكاناً أفضل
في جوهره، لا يسعى الاستثمار ذو الأثر أو المؤثّر إلى تحقيق العوائد المالية والأرباح فقط، بل يهدف أساسًا إلى توليدِ تأثيرٍ اجتماعيٍ وبيئيٍ إيجابي وقابل للقياس إلى جانب العائد المالي. وعلى عكس نماذج الاستثمار التقليدية، حيث يتم قياس النجاح من خلال المقاييس المالية فقط، يهدف الاستثمار ذو الأثر إلى مواءمةِ دوافع الربح مع الالتزام بجعل العالم مكانًا أفضل، من خلال تنفيذ الاستثمارات المؤثّرة في كلٍّ من الأسواق الناشئة والمتقدّمة، واستهداف ربح قد يقلّ عن أرباح الاستثمارات التقليدية أو يساويها، اعتمادًا على الأهداف الاستراتيجية للمستثمرين، بحيث يوفّر أدوات تمويلٍ جديدةٍ لمواجهة التحديّات الأكثر إلحاحًا في العالم، في قطاعاتٍ مثل الوصول للعدالة، والزراعة المستدامة، والطاقة المتجدّدة، والحفاظ على البيئة، وتوفير الخدمات الأساسية بأسعار معقولة بما في ذلك الإسكان والرعاية الصحيّة والتعليم.
وتوجد عدّة أدوات مالية مبتكرة يمكن استخدامها لتحقيق الاستثمار ذي الأثر أو المؤثّر، وأكثرها بروزًا هذه الأيّام سندات التأثير الاجتماعي (Social Impact Bonds - SIB) وسندات التأثير التنموي (Development Impact Bonds - DIB). وهي عبارة عن شراكاتٍ فريدة من نوعها بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني تُستخدم لتمويل الخدمات الاجتماعية الفعالة بمفهومها الواسع من خلال العقود القائمة على الأداء. وتقوم في الغالب على أربعةِ شركاء: المستثمرين، ومقدّمي الخدمات، والمقيمين، ومن سيدفع مقابل النتائج في حال تحقيقها، وفي الغالب تكون الحكومات. حيث يوفّر المستثمرون المؤثرون رأس المال لتوسيع نطاق عمل مقدّمي الخدمات عالية الجودة الذين في الغالب يكونون من مؤسّسات المجتمع المدني وأحيانًا القطاع الخاص، بحيث يتم دمج النتائج المرجوة في التصميم الأساسي للبرنامج، وفي حالة تحقيق النتائج المتفق عليها بعد انتهاء البرنامج والتقييم تقوم الحكومات بدفع قيمة الاستثمار مع نسبةِ الربح المتفق عليها. وهنا تظهر المخاطرة المالية، ففي حالة عدم تحقيق الأهداف المتفق عليها قد يخسر المستثمرون قيمة استثماراتهم.
على الرغم من أنّ مشهد الاستثمار المؤثّر يبدو واعداً، فإنه ما زال نموذجاً ناشئاً نسبياً ولا يخلو من التحدّيات
تقدر شبكة الاستثمار ذي التأثير العالمي (GIIN) حجم سوق الاستثمار المؤثّر عالميًا لعام 2022 بمبلغ 1.164 تريليون دولار أميركي، وهي قوة استثمارية عالمية صاعدة مع إمكانياتٍ كبيرة للنمو، يمكن تطبيقها في سياقاتٍ متعدّدةٍ وبطرقٍ متنوّعة، من خلال ما يتمتع به الاستثمار ذو الأثر من القدرة على فتح سبل جديدة لتمويل البرامج والمبادرات التي قد تكافح من أجل تأمين التمويل. ومن خلال مزج العائدات المالية مع الأغراض الاجتماعية والبيئية، يجذب الاستثمار المؤثّر نطاقًا أوسع من المستثمرين، بما في ذلك أولئك الذين يعطون الأولوية لإحداث فرق إيجابي إلى جانب المكاسب المالية.
وعلى الرغم من أنّ مشهد الاستثمار المؤثّر يبدو واعدًا، فإنه ما زال نموذجًا ناشئًا نسبيًا ولا يخلو من التحدّيات، وأبرزها تحقيق التوازن بين العائدات المالية وأهداف التأثير، وإنشاء مقاييس متسقة لقياس التأثير، وإقناع الحكومات بتبنيه، وتشجيع المستثمرين على الانخراطِ فيه على الرغم من المخاطر، والتعامل مع القضايا المعقدة التي قد تتطلب تعاونًا وابتكارًا مستمرين من جميع الأطراف ذات العلاقة. ومع ذلك، فإنّ هذه التحديّات توفّر فرصًا لريادةِ حلول جديدة وتشكيل مستقبل الاستثمار ذي الأثر.
إنّ الاستثمار ذا الأثر ليس مجرّد استراتيجية مالية؛ بل أقرب إلى الحركة الصاعدة التي تعيدُ تشكيل مشهد التمويل العالمي، من خلال الجمع بين الربح والهدف الإنساني، ومع استمرار الحركة في اكتسابِ الزخم، أصبحتْ إمكانية إحداث تأثير تحويلي على نطاق عالمي واضحة بشكلٍ متزايد، وعلى الرغم من ادّعاء البعض تطبيق نموذج الاستثمار ذي الأثر في المنطقة، فإنّ معظم هذه النماذج في أفضل حالاتها لا تعدو كونها استثمارا مسؤولا ولكن هدفه الأساسي هو الربح فقط.
وعليه يجدر بالمعنيين دراسة واختبار وتطبيق هذا النهج الاستثماري التمويلي بشكله الصريح، ممّا يمهد الطريق لمستقبل أكثر استدامة وإنصافًا، ومن يدري قد يساعد على التخفيف من سطوةِ وتغوّل المانحين التقليديين.