شهادة غريبة على عصر أغرب (2/5)

07 يناير 2021
+ الخط -

في أكثر من موضع في كتابه (عرفت السادات) يتحدث الدكتور محمود جامع عن التقارير الأمنية والوشايات وتأثيرها الكبير على السادات، كاشفاً أن وشايات أحد الأجهزة الأمنية حاولت الإيقاع بين السادات ونائبه حسني مبارك، ونجحت في ذلك لفترة وجيزة، ثم فهم السادات حقيقة الأمر وأصلح علاقته بمبارك، وهو ما يشير إليه جامع باقتضاب مشوق للقارئ قائلاً: "لا داعي للخوض في تفاصيل أكثر"، مشيراً إلى وجود تأثير قوي لزوجة السادات السيدة جيهان والذي كان يفوق تأثير الأجهزة الأمنية، ويروي جامع أن جيهان السادات كانت تقول لزوجها دائماً "لا تجعل أذنيك الاثنين ملكاً لنائبك ولكن أعط له أذناً واحدة"، أما الأذن الثانية فكانت تقترح أن يمنحها السادات للفريق محمد سعيد الماحي رئيس جهاز المخابرات في نهاية السبعينيات والذي كان صهر محمود أبو وافية الذي كان بدوره صهر السادات وجيهان، ويصف محمود جامع الأخبار التي كان الماحي يعطيها للسادات بأنها "تدعو للاستغراب"، لكنه لا يذكر أمثلة لها، وفي السياق نفسه يروي محمود جامع دور النبوي إسماعيل وزير الداخلية الأخير في عهد السادات في إحباط محاولة كمال حسن علي تعطيل انتخاب حسني مبارك رئيساً جديداً للجمهورية بعد اغتيال السادات، حيث كان كمال حسن علي قد حاول التصميم على مرور مدة الستين ويماً التي نص عليها الدستور قبل اختيار رئيس الجمهورية الجديد، لكن النبوي إسماعيل صمم على عمل إجراءات الانتخاب فوراً "بعد أن نظر إلى مبارك نظرة ذات مغزى".

يتحدث محمود جامع عن علاقة غريبة جمعت السادات بصحفية يهودية أمريكية اسمها جوديت كيبر، يقول إن السادات وثق فيها بشدة، وأنها كانت على درجة عالية جداً من الجمال والذكاء واللباقة، وكانت تأتي إلى القاهرة بدعوة شخصية من السادات خاصة بعد معرفة السادات باتصالها بمؤسسات الحكم المؤثرة في أمريكا، ويقول إنها كانت قريبة الشبة بالسيدة جيهان السادات التي كانت تحذر السادات ضاحكة: "إياك تغلط فينا"، مؤكداً أن جوديت كانت على صلة بالمخابرات الأمريكية ولعبت دور حمامة السلام بين مصر وإسرائيل في بعض الأوقات، ويقول جامع إنه عزم جوديت ذات مرة على الإفطار في رمضان في بيته بمدينة طنطا، وفوجئ السادات بذلك حين عرفه.

في حديثه عن الفترة التي كان فيها أنور السادات نائباً لجمال عبد الناصر، يروي الدكتور محمود جامع في كتابه (عرفت السادات) تفاصيل تخالف ما شاع وانتشر عن عزوف السادات عن السلطة ورغبته في البقاء الدائم في الظل، مؤكداً أن السادات عندما أحس أن صحة عبد الناصر بدأت تتدهور، شعر أنه لا بد أن يكون جاهزاً لتولي الحكم، وفي تلك اللحظة بالذات بدأ الترتيب لاجتماعات مع مختلف القوى السياسية المقموعة والغاضبة من ثورة يوليو، لدرجة أن السادات حاول مبكراً بحث المصالحة مع الإخوان من غير علم عبد الناصر، لكنه حين قام بتكليف محمود جامع بهذه الاتصال قال له إن عبد الناصر يعلم بتلك الاتصالات.

يقول محمود جامع إن أشرف مروان عرف أهمية جيهان السادات فحرص على التقرب منها وظل قريباً منها، واشترك معها هي وفوزي عبد الحافظ في إفساد زواج الشاب أحمد المسيري من لبنى السادات

قام محمود جامع بترتيب لقاءات للسادات في منزله مع بعض القيادات الإخوانية التي خرجت من سجون عبد الناصر، كان من بينهم لاشين أبو شنب ود. أحمد سيد درويش الذي عينه السادات فيما بعد وزيرا للصحة، ود. نعيم أبو طالب، ود. كامل صديق الذي عين فيما بعد محافظا للجيزة، ود. عصمت زين الدين أستاذ كلية الهندسة، وعبد العزيز هلالي الصحفي بالأخبار والمهندس علي محمد أحمد رجل الأعمال والمستشار محمد السعدني وغيرهم، وقد حضر السادات إحدى هذه اللقاءات وهو يستقلّ سيارة عبد الناصر الذي كان موجوداً وقتها في زيارة إلى السودان، ليعطي انطباعاً أنه على اتصال دائم بعبد الناصر، وكان معروفاً للجميع أن هذه سيارة عبد الناصر لأنها كانت السيارة الوحيدة في مصر المزودة بتليفون لاسلكي.

شاءت الصدفة أن يتم اكتشاف هذه اللقاءات حين انتبه مفتش مباحث يعمل في منطقة سكن الدكتور جامع إلى وجود سيارة رئيس الجمهورية دون أن يرافقها موكب، فقام بإبلاغ وزير الداخلية شعراوي جمعة الذي قرر التحري عن الموضوع بطريقته الخاصة، فأصدر أمراً بالقبض على الطباخ والسفرجي الذين يعملان في بيت محمود جامع، وعرف منهما حقيقة ما جرى في البيت، وقام بإبلاغ عبد الناصر بالأمر، لتتوالى احتجاجات الأجهزة الأمنية الغاضبة، ويتصل السادات بمحمود جامع ويقول له: "لا تذهب إلى عيادتك وإلا قتلوك فأنت لست أحسن من هيكل الذي حاولوا قتله بمسدس كاتم صوت أمام مبنى الأهرام وهشموا سيارته"، مشيراً إلى الخلافات القوية والحادة التي جرت بين محمد حسنين هيكل ورجال عبد الناصر الأقوياء والتي قام هيكل بتصفيتها فيما بعد حين انحاز إلى صف أنور السادات وساعده على الإطاحة بهم، ومع أن جامع يقول إن عبد الناصر لم يكن لديه علم بما قام به السادات وأنه أصدر أمراً للسادات بعدم النزول إلى طنطا مرة أخرى، إلا أن عدم تأثر موقف السادات بما جرى، إن صحت رواية جامع مئة في المئة، يؤكد أن ما جرى كان بعلم عبد الناصر، وأنه كان ضمن سعيه لترتيب البيت من الداخل عقب هزيمة 1967.

اللافت أن محمود جامع وهو يستعرض أسماء الجبهة المعارضة للسادات، وبعد أن ذكر الأسماء الكبيرة مثل شعراوي جمعة وعلي صبري وسامي شرف ولبيب شقير وغيرهم، قال إن تلك الجبهة ضمت وقتها الدكتور مفيد شهاب الذي كان يرأس أمانة الشباب في الاتحاد الاشتراكي، وضمت بعض أمناء الاتحاد الاشتراكي في المحافظات ومن أبرزهم كمال الشاذلي أمين الاتحاد الاشتراكي في المنوفية، والذي كان متبتلاً في محبته لعبد الناصر، وحين اشتد الخلاف بين السادات ومعارضيه قبل ما أطلق عليه ثورة التصحيح في مايو 1971، حاول الشاذلي أن يقف على الحياد حتى لا يُحسب على أي من الطرفين المتصارعين، فذهب من يبلغ السادات بأن الشاذلي يرتبط بعلاقة قوية مع لبيب شقير، فغضب السادات من كمال الشاذلي الذي كان يتوقع منه أن يؤيده بحكم الانتماء المنوفي، واستبعد الشاذلي بعد "ثورة التصحيح" من موقعه في الاتحاد الاشتراكي، وعين مكانه فتحي المدبولي، ليعمل الشاذلي بعدها في وزارة التموين ثم في شركة مصر لتجارة السيارات، لكنه لم ييأس وبذل كل ما في وسعه لكي ينجح في انتخابات مجلس الشعب، ويؤدي تحت القبة أداءً رضي عنه السادات، فأعاد تقريب الشاذلي إليه، وتعلم الشاذلي الدرس منذ تلك اللحظة، وأدرك خطورة الحياد والتذاكي مع النظام، ولم تضع منه البوصلة السياسية الموالية مرة أخرى.

بعد أن تمكن السادات من الإطاحة بأعدائه من رجال عبد الناصر وقام بتقديمهم للمحاكمة، اتهمت المحكمة سامي شرف مدير مكتب عبد الناصر بالاستيلاء على أموال المصاريف السرية برئاسة الجمهورية للانفاق على زواج ابنتيه، لكن سامي شرف دافع عن نفسه قائلاً إنه أخذ هذه الأموال بأمر عبد الناصر الذي قال إنه كان ينفق 30 مليون جنيه سنوياً من المصاريف السرية لرئاسة الجمهورية على كبار المسئولين والصحفيين والفنانين، من المهم هنا الإشارة إلى المستشار بدوي حمودة وزير العدل السابق والذي كان عضواً في هيئة المحكمة التي حاكمت سامي شرف وعلي صبري وشعراوي جمعة والتي رأسها حافظ بدوي، هو صهر محمود جامع، ولذلك استفاض في الحديث عن تفاصيل هذه المحاكمات، والغريب أنه لم يجد حرجاً في أن يقول في كتابه إن صهره القاضي طلب منه أن يطلب من السادات الإفراج عن عبد المحسن أبو النور الأمين العام السابق للاتحاد الاشتراكي وعباس رضوان وزير الداخلية السابق وأحمد كامل مدير المخابرات العامة السابق فوراً لأنهم أبرياء عكس غيرهم من المحبوسين في قضية (مراكز القوى)، ونقل محمود طلب صهره إلى السادات وألح في طلبه حتى تم الإفراج عن الثلاثة.

في سياق شهادته على أحداث 15 مايو 1971 التي أطلق عليها الإعلام الساداتي اسم (ثورة التصحيح) يقلل محمود جامع من أهمية دور محمد حسنين هيكل في مساعدة السادات على الإطاحة بخصومه، قائلاً إنه سأل السادات ساخراً: "أنا مبسوط جدا يا ريس أنك تستشير هيكل في كل شيء"، فانفجر السادات غاضباً وقال: "هيكل ده مين.. فاكرني عبد الناصر.. هو صحفي (...) زي كل الصحفيين". لم يذكر محمود جامع نص الشتيمة التي ذكرها السادات لكنه استبدلها بثلاثة نقط ليترك استنتاجها لقارئه، مفسراً سر كراهية السادات لهيكل، بأن السادات تعرض لموقف محرج بسبب هيكل، حين حدثت فجوة بين هيكل وعبد الناصر بعد اعتقال المباحث لسكرتيرة هيكل نوال المحلاوي ولطفي الخولي، واصطحب السادات هيكل ليصلح ما بينه وبين عبد الناصر، لكنه فوجئ بأن عبد الناصر يطلب الانفراد بهيكل في غرفة لوحدهما، ليتركا السادات وحده في الصالون، وهو ما ضايق السادات جداً وظل هيكل يحمل مسئولية ذلك الحرج طبقاً لما رواه لمحمود جامع.

يتحدث محمود جامع بعد ذلك عن أشرف مروان زوج منى عبد الناصر، والذي تبناه السادات ورعاه في الوقت الذي كانت أسرة عبد الناصر تعتبره خارجاً عليها وناكراً لجميلها، مؤكداً الرواية الشائعة التي تقول إن الفرصة واتت أشرف مروان للتقرب من السادات حين قام بمساعدته على الإطاحة بسامي شرف، لكنه يروي طبعة مختلفة من تلك الرواية، حيث يقول إن أشرف مروان عرف أن سكرتير سامي شرف تلقى أمراً بحمل الخزانة الخاصة التي توجد بها أوراق سامي شرف إلى مكان مجهول، فتربص له أشرف مروان وقام بإطلاق الرصاص على السيارة وأجبر السائق على إعطائه الخزنة وأخذها إلى السادات ليجد بها كنزاً ثميناً هو كل أوراق سامي شرف وقيادات الاتحاد الاشتراكي وأرقام حساباتهم البنكية الخاصة، ولذلك كان السادات يقول عن أشرف مروان إنه "نور طريقي"، ولذلك اختاره سكرتيراً له خاصة أنه كان على علاقة جيدة بعدد من الأمراء والرؤساء وتجار السلاح.

يقول محمود جامع إن أشرف مروان عرف أهمية جيهان السادات فحرص على التقرب منها وظل قريباً منها، واشترك معها هي وفوزي عبد الحافظ في إفساد زواج الشاب أحمد المسيري من لبنى السادات، وعجز السادات تحت ضغط هذا الثلاثي الخطير من فعل أي شيء للشاب العاشق الذي كانت ابنته تبادله الحب، وحين بدأ الكاتب الصحفي جلال الدين الحمامصي في شن حملات على أشرف مروان أو "الطفل المعجزة" كما سمّاه علي أمين، وذلك حين اشترى أشرف قطعة أرض مملوكة للدولة ثم باعها بسعر ضخم مستغلاً نفوذ منصبه، واتضح أن المشتري كان كمال أدهم رجل الأعمال والمخابرات السعودية الشهير فيما بعد، لكن السادات تمسك بأشرف رغم ضراوة الحملة، وبرر هذه الحملة بأن البعض يعتقد خاطئاً أن أشرف "فيه من ريحة الناصرية".

ظل السادات متمسكاً بأشرف مروان بسبب علاقاته الخارجية القوية، ولم يستجب لضغوط الكارهين له من رجاله، لكنه حين زادت عليه الضغوط وشعر أن أشرف صار عبئاً عليه، قرر في خطوة درامية منوفية رهيبة أن يستخدم أحمد المسيري غريم أشرف العاطفي في الإطاحة به، حيث أرسله إلى لندن ليتقصى تصرفات أشرف مروان وأطلع السادات على ملف يحتوي على الكثير من الخلافات، فأصدر قرارا بإبعاد أشرف مروان عن مؤسسة الرئاسة، لكنه أسند إليه مهمة الهيئة العربية للتصنيع، وساعده على جعلها مؤسسة ضخمة، لكن الحملة ضد أشرف مروان لم تهدأ، وظل السادات متمسكاً به وفسر ذلك لمحمود جامع بأن أشرف مروان قام بتقديم خدمات جليلة لمصر قبل حرب أكتوبر حين أقنع كثيراً من الدول العربية بتقديم السلاح لمصر ودعمها مالياً، واستمر خصوم أشرف مروان في تعقبه، حتى نجحوا في تسجيل لقاء له مع أحد الحكام العرب، كان ينتقد فيه سياسات السادات الذي غضب منه بشدة وأبعده عن الهيئة العربية للتصنيع، ليغادر البلاد ويقيم في لندن حتى وفاته الغامضة التي حدثت بعد صدور كتاب محمود جامع بعدة سنوات.

....

نكمل الأسبوع القادم بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.