شموخُ الذات في تواضعها
عزيز أشيبان
ربّما يتفوّق الإنسان في اكتشافِ محيطه وفهم تفاصيله، والغور في أسرارِ الطبيعة ومكنوناتها، وغزو الفضاء، ورفع سقف تحديات الاكتشاف باستمرارٍ وإلحاحٍ، غير أنّه يظلُّ عاجزًا عن اكتشافِ ذاته واستيعاب تفاصيل دواخله، وكأنّه بصدد قراءة كائن آخر غريب عنه.
وحقيقةً، يحول بين الشخص وفهم حقيقة ذاته مجموعة لامتناهية من العوائق النفسية والذهنية والثقافية والاجتماعية، ومنظومة الصراعات الداخلية الأبدية التي تحيله على اتجاهات عدة، وتتحكّم في تشكيل أنساق تفكيره وسلوكه وردات فعله. كما أنّه في غيابات الذات البشرية نفسها تستقر الأوهام والاضطرابات النفسية والذهنية وميولات النزعات الغرائزية والنزوات.
وتستمر رحلة اكتشاف الذات على مدى حياة الإنسان، وتظل أهدافها الاستكشافية متحرّكة ومتغيّرة، عصية على الترويض أو الضبط ما دامت مجهولة وغير محدّدة بضوابط ثابتة. ثمّة من يُقبل على الرحلة ويعي جيداً ما ينتظره من صعوبات وإخفاقات وتحدّيات ما دام في مواجهة المجهول، وهناك من يعرض عن الرحلة دون إدراك، ويكتفي بتقييم الذات عن بعد وتزكيتها وانتظار الإطراء والإعجاب من الآخرين.
يظلُّ الإنسان عاجزًا عن اكتشافِ ذاته واستيعاب تفاصيل دواخله، وكأنّه بصدد قراءة كائن آخر غريب عنه
مما لا شك فيه أنّ إبداء الإيجابية في النظرة إلى الذات أمرٌ مطلوبٌ ومحمودٌ من خلال استحضار حبِّ الذات واحترامها والثقة في النفس دون الوقوع في الأنانية والتكبّر، أو احتقار الذات واستصغار ذخائرها. وبكلّ تأكيد، نحن بصدد عملية معقدة ترجو تحقيق التوازن والاعتدال والنجاة من السقوط في الاضطرابات. ربّما تفوّق من أبدى الشجاعة في التماس مسار المقاربة الأولى واختار طريق المكابدة واختزل عملية تقييم نفسه في اللاشيء، فكان له كلّ شيء. كيف ذلك؟
في ثنايا خيار رحلة اكتشاف الذات واستقصاء نواقصها وعيوبها ميلٌ إلى الانغماس العقلاني في أعماق الذات، من خلال إرساء ثوابت النقد الذاتي وركائز الحسّ التحليلي من أجلِ كبحِ نزعاتِ الأنا والحيلولة دون الوقوع في إغراءِ جاذبية الأنانية، والتكبّر، وتزكية النفس، والقدرة على مصارعة الأوهام والمتخيّل من تصوّرات العظمة والتفوّق والتميّز وعدم الارتكان إلى خطر الرضا عن أدائها المادي والمعنوي والبحث المستمر عن الأفضل.
ضمنيًّا، تكتنف الرحلة دعوة إلى تطوير الذات، والعمل المتواصل على معالجة عيوبها، من خلال اكتشافها، والاعتراف بوجودها، والخوض في عملية احتوائها وتطويعها. بذلك، يظلّ الانسان حكيمًا، متواضعًا، منكبًّا على ذاته، مدركًا حقيقة تعدّد نواقصه، لكنه في مسار تراكمي للإنجازات المادية والمعنوية، مؤكدًا حضوره الفعلي، فارضًا احترامه ومعبّرًا عن طاقاته وعمق مأتى عطائه، يرى نفسه في منحى تنازلي، بينما يراه الآخر في منحى تصاعدي يُحتذى به ويُطلب اقتفاء أثره.
في ثنايا خيار رحلة اكتشاف الذات واستقصاء نواقصها وعيوبها ميلٌ إلى الانغماس العقلاني في أعماق الذات، من خلال إرساء ثوابت النقد الذاتي وركائز الحسّ التحليلي من أجل كبح نزعات الأنا
نميل حقاً إلى القولِ بأنّ الرحلة زاخرة بالمكتسبات العصية على الإدراك والإحاطة، ومع ذلك نلتمس ذكر البعض منها دون إنكار البعض الآخر. ومما لا شك فيه، هناك استدامة في عمليات البناء والنمو والتطلّع إلى الأفضل على مستوى الذات، بعد تحقّق وحسن تدبير وتسخير وتوظيف الجهد والوقت في التركيز على مكوّناتها، عوضَ الانصراف نحو ما لا يفيد، انتصارًا للجبنِ والخوف والتردّد في مواجهة الجانب المظلم منها.
فضلًا عن ذلك، وكثمرة للمجهود المبذول على المستوى الشخصي، يجري الانتقال إلى التعايش الجماعي والانصهار في مكوّنات المجموعة بسلاسة وعقلانية وفعالية، عوض خيار التكبّر والانسحاب والانزواء الاختياري والهزيمة أمام نواقص الذات وعيوبها.
في مقاربة اللاشيء تسمو الذات وتكتسب كلّ ما هو إيجابي وحرّكي، ويظلّ حضورها قويًّا، شامخًا رغم غيابها في البعد المكاني الظرفي.