سيرة من حياة "عمر محمد علي"
بعد أن انقشع غبار المذبحة، كنت أبحث عن ابن أخي المفقود "أحمد محمد علي"، وكان "عمر محمد علي" يبحث عن أبيه، ولم أكن أعرفه، قبل ذلك كان يتحلى بروح مرحة وساخرة تتناسب مع كونه شابا وسيما في أوائل العشرينيات، حتى أنه أسر لي بأن أكثر ما يزعجه هو توافد الزائرين على بيته، وما يسببونه من زحام ومكوثهم لأوقات طويلة وثرثراتهم، كان عمر يحب النوم أكثر من أي شيء آخر، وكان ينام حتى في المواصلات في وداعة الأطفال، وكان رائق البال دائما..
بعد ذلك اللقاء بأيام عثر على جثمان والده في المشرحة، وقتل أخي، "محمد علي" آخر، وهو يبحث عن ولده، قبل أن يعرف مصيره في مذبحة أخرى، وعرفنا لاحقاً أن ابن أخي في السجن.. وصرنا أصدقاء..
لم نكن أنا أو عمر ننتمي إلى أي جماعة أو حزب سياسي، وكنا نتشابه في أشياء كثيرة، واكتشفنا أن والدينا ينحدران من نفس القرية، وأننا نشجع نفس فريق كرة القدم، ومسلسلنا المفضل هو Breaking Bad..
وهنا أقتبس للشاعر الأميركي "والت ويتمان" الذي كان ديوانه "أوراق العشب حاضراً" في المسلسل:
"سمعت بأن تهمة وجهت ضدي
هي أني أريد أن أدمر المؤسسات
لكني، حقا لست مع المؤسسات، ولا ضدها
(ما الذي يجمعني بها، أوبتدميرها؟)
أريد فقط أن أبني في مانهاتن
وفي كل ولاية من الولايات
في داخل البلاد، وعلى شاطئ البحر
في الحقول والغابات
وفي كل سفينة صغيرة، أو كبيرة، تلامس الماء
أريد فقط أن أبني
دون أجهزة وقوانين ولجان ونقاش،
مؤسسة حب الرفاق العزيز".
لماذا وبأي ذنب يحرم عمر من حريته وحياته ويقبع في زنزانة صماء محكوماً عليه بأن يقضي فيها ربيع شبابه في قضية ليس بها أحراز أو أدلة أو شهود أو اتهام أو جريمة؟
كان يوم الأول من يونيو/حزيران عام 2015 يوماً عاديا في حياة عمر، استيقظ من النوم بصعوبة وذهب إلى عمله، وبعدها كان على موعد مع صديقته في آخر النهار، وآخر نهار يشهده من خارج زنزانته. ذهبا إلى منطقة نزلة السمان في محافظة الجيزة، ليمارس عمر للمرة الأخيرة إحدى هواياته المحببة، ركوب الخيل، وفي نهاية اليوم الذي كانت بدايته عادية، ذهبا لتناول العشاء في أحد المطاعم في جزيرة الزمالك..
في ماذا كنت تفكر يا عمر في بداية ذلك اليوم؟ بماذا كنت تشعر في نهايته؟ وما هي خططك لليوم التالي والتي كنت تفكر فيها وتأجلت لوقت طويل؟..
قبل أن ينصرفوا بوقت قصير جاء أحد الأشخاص الذي يعرفونه معرفة سطحية ليسلم عليهم، وعندما خرجوا من المطعم عائدين إلى بيتهم، استوقفهم ثلاثة أشخاص بزي مدني، وطلبوا منهم هوياتهم ومتعلقاتهم الشخصية، وأمروهم بركوب ميكروباص أبيض اللون يستخدم في العادة كوسيلة مواصلات.
أثناء ذلك أجرى من يلقي الأوامر من أصحاب الزي المدني مكالمة هاتفية مع أحدهم، قائلاً له: "مبروك يا باشا خلاص قبضنا عليه وفيه كمان اتنين معاه، واحد اسمه عمر محمد، وواحدة اسمها إسراء.. أجيبهم معايا؟".
لم ينته اليوم الذي بدأ عاديا، نهاية عادية، ولم يرجع عمر وصديقته إسراء إلى منزليهما، فقط اختفوا.
منذ ذلك التاريخ لم أرَ عمر.. ومنذ ذلك التاريخ لا يعرف أحد بمن فيهم من قبضوا عليه ومن حققوا معه ومن أصدروا عليه حكما بالسجن المؤبد ومن رفضوا نقض الحكم لماذا بعد كل هذه السنوات عمر ليس في بيته، مع والدته الطيبة وأشقائه الصغار؟
بيته الذي حين دخلته تمنيت أنه لو كان بيتي، ولماذا منع من استكمال دراسته في كلية الهندسة؟ ولماذا فصل من عمله؟ لماذا وبأي ذنب يحرم عمر من حريته وحياته ويقبع في زنزانة صماء محكوماً عليه بأن يقضي فيها ربيع شبابه في قضية ليس بها أحراز أو أدلة أو شهود أو اتهام أو جريمة؟ قضية لو نظر القاضي فيها فقط دون أن يقرأ لما لبث عمر يوم واحد في السجن..
ألا تكفي كل هذه السنوات من الغياب ليشعر أي مسؤول بأن هناك شيئا خاطئا؟
غاب عمر عنا، لكنه لم يغب عن عقول وقلوب من يحبونه، لأنه ليس مجرد رقم، لأن له أصدقاء وعائلة، لأن هناك من كان يشملهم برعايته، لأن هناك من ينتظرون عودته، لأن هناك من يحبهم.
لم يتبق لعمر ولا لنا أي أمل ليستعيد حياته وحريته سوى عفو رئاسي لا نعرف السبيل إلى تحققه..
ستبقى قصة عمر وسيرته شاهدة على فداحة الظلم، ورفضنا له لمن نكره قبل من نحب، وسعينا لعدالة تسع جميع البشر، لعدالة لا تلقي بالناس في غياهب السجون مدى الحياة، لأنهم ذهبوا لتناول العشاء في مطعم!.
أغمض عيني،
لأتحايل على الوقت
ربما مرت ساعتين، أو سنتين
لا أرى أحلاماً، اللون الأبيض فقط
أفتح عيني
وأنتظر..