سيرة ذاتية تخصّ كلّ الفلسطينيين المهجرين
يعود الشاعر الفلسطيني الراحل مريد البرغوثي إلى رام الله بعد أن تمكّن من عبور الجسر، بعد ثلاثين عامًا من الاغتراب والمنفى القسري، ليكتب "رأيت رام الله". ولعلّ هذا الأسلوب في كتابة السيرة الذاتية واحد من أرفع أشكال المادة الحكائية التي تعبّر عن الحكاية الوجودية للشتات الذي يعيشه ملايين الفلسطينيين اللاجئين حول العالم. ما مرّ بمريد قبل الاحتلال، وعند الاحتلال، وبعد الاحتلال، لا يشير إلّا إلى سيرة كلّ فلسطينيّ تستحق أن تُروى، حتى وإن لم تجد من يستنبط من الخيبات والآلام والنفيّ والفقد حكاية تستحق أن تتحوّل إلى نص أدبي، ولكن من حسن حظ البراغثة وحسن حظنّا أنّ مريد روى الحكاية عن كلّ منهم ومنّا، في الوقت الذي لم يرو فيه إلّا حكايته الفردية وعائلته.
إنّ كتابة البرغوثي ليست كتابة سياسية، حتى وإن تحدّث عن الحكومات العربية والقيادة السياسية والزعماء في كلّ فصل من حكايته. البرغوثي كاتب يعلم جيدًا كيف يكتب ما يريد دون تأطير، ولعلّ أكثر ما لفتني في نثر مريد الشعريّ أنّه لم يتحدث عن نفسه وعائلته كضحايا، إنّما تمسّك بحقيقة أنّ هذا الألم والشتات الجغرافي على صعوبة تحملّها فإن حِصَته وعائلته من الوجع الفلسطيني أقلّ بقليل ممّا يجب، بالرغم من اندفاعه نحو عالمه الذي باتّ شكلاً جديداً ويحمل معه اسماً ومعاني ومفردات تتناسب مع الوضع الجديد؛ إلّا أنّه جسّد تلك الأحداث والمشاعر بهندسة عقلية تعيد القارئ لتجربة اقتلاعه الأولى، والبرهان إلى أنّ الزرع الذي يقتلع من أرضه، قد يعود لذات الأرض ويثمر مرّة أخرى.
ومريد البرغوثي مرّة أخرى يشكو إصابته بالشعر، بالغربة، بالمنفى، ليتساءل عن السبب الذي يدفع كلّ شخص في العالم إلى أن يظنّ أنّ وضعه مختلف، إصابته بكلّ شيء تعني إصابة كلّ لاجئ بما أصيب به، وكلٌّ منهم يحسب أنّ وضعه مختلف وأكثر حرجاً وأشدّ تأزماً، ليؤكد أنّ طبع البشريّ فينا يبحث دوماً عن التميّز، حتى في الخسارة.
في العودة إلى البلاد؛ يُعيد البرغوثي معه كلّ أحلامه، وآل البرغوثي، أفراداً ومخاتير ومشايخ وأصحاب دكاكين وأراضٍ، يعيد تشكيل عالم فقده منذ اللحظة الأولى التي غادر فيها "دير غسانة" طالباً في القاهرة، يحاول إعادة هيكلة بناء فقد هويته ومهندسه المعماريّ منذ أكثر من ثلاثين سنة، ليقف على تراب الأرض، تلك الأرض، أرض الأرض؛ فلسطين. وتحمله البلاد لا إلى دير غسانة إنّما إلى جنين ورام الله وحيفا والقدس ويافا، وشجرة التين التي صعدت إلى السماء، لتتسع "الأرض" أطفالًا وموائد طعام.
في اللحظة التي يعبر اللاجئ فيها الجسر، تتخلى فلسطين عن كونها خرائط موزعة، لتتجلّى وطناً يتمتع بشرعية مستقلّة
في حكاية كلّ لاجئ؛ يبدأ تشكّل فلسطين بكلّ ما هو ماديّ، بالخريطة الخشبية التي تعتلي غرفة الضيوف، والمفتاح في عنق النساء، بالخريطة الذهبية على حائط المكتب، وخيط القصب في ثوب السهرة، والتطريز على المصحف والإنجيل، في اللحظة التي يعبر اللاجئ فيها الجسر، تتخلى فلسطين عن كونها خرائط موزعة، لتتجلّى وطنًا يتمتع بشرعية مستقلّة، هذه النظرة الاستعادية للأحداث كلاجئ وعائد ترتبط حقوقه بالإقامة والرحيل، والهوية التي يحلم فيها، والوقت الذي يسمح له أن يبقى دون أن يتعرّض إلى الترحيل من سريره.
على ما يبدو أنّ ما دفع مريد البرغوثي لكتابة "رأيتُ رام الله" هو ذاكرته التي يتشبّث بها، الاحتفاظ بالذاكرة من أجل الذكريات الثمينة، من أجل استرداد الحق، في الوقت الذي يشكو فيه البرغوثي قلقه وشكوكه عند كتابة الشعر، يروي اطمئنانه في كتابة الرواية، حتى وإن بدا هشًا وبدا متعاليًّا، فالكتابة هي الطريقة الوحيدة التي يتمسّك بها الفلسطينيّ، ليثبت حقه جيلاً بعد جيل، هكذا لا يُمكن أن تُنسى القضية.
"السَّمكة
حتّى السَّمكة وهي في شِباك الصَّيادين
تظلُ تحمل
رائحة البحر"
في هذه الطريقة، يخبرنا مريد أنّ الإنسان يحمل شامة على شكل خريطة بلاده، لا يمكن للوطن أن يصبح منفى، فلسطين لا تغادر اللاجئين حتى اللحظة الأخيرة، حتى عند الموت ومقابلة الله، يحمل اللاجئ رائحة الياسمين وزهر اللوز وطعم الزيتون، في "كفيه وذراعيه وأصابعه".
أحسب أنّ القصد من "رأيت رام الله" ليس صاحب السيرة وما جرى عليه قبل أن يدخل فلسطين كسائح وفلسطينيّ يحمل بطاقة ويبحث في وجوه الحاضرين عن الغائبين، ليس القصد من الرواية مريد وتميم ورضوى والشتات الجغرافي الذي تسبّب كلّ من ما تُدعى "إسرائيل" وأنور السادات الذي طرده من مصر في 1977، ليس دار رعد ولا منزل الحمرا والشميساني وجدران بودابست، القصد من الرواية السيرة الاستثنائية في شخوص الحكاية، عن كلّ منهم وتجسيده لكلّ لاجئ لا يعرفه، وليس بالضرورة أن ينتمي للبراغثة في دير غسانة لتتحدث عنه الرواية، حسب الفرد أن يكون فلسطينيًا لاجئًا، ليتجلّى الشرط الإنساني الوجودي في الرواية، بكلّ ما فيه من منفى وقتل وأحلام مركونة، وأتراح مؤجلة، ومنعطفات حادة، حتى نجد حلًّا لقضية فلسطين.
"لم الشمل" ما تحلم به صبية في ضفة نهر الأردن لنفي الأشواق والصبوات والأحلام، ملايين اللاجئين في مخيمات الشتات، تستيقظ العاطفة فيهم لسبب وبلا سبب، حتى يبدأ شلال الحزن الذي يدفع رويدًا رويدًا لارتباك المعنى وغيابه، لاحتلال فلسطين مرّة أخرى، وضرورة محاسبة كلّ من أخطأ في حق الفلسطينيّ ليسدّد الثمن، ومن ثم سرعان ما تعود حياة اللجوء ويعود الغضب الكامن ليشكّل بعد ذلك شخصية جديدة للفلسطينيّ، شخصية الاحتلال التي وصفها البرغوثي: "الشخصية المركبة التي تجمع شفافية المشاعر واقتحامية السّلوك، الفزع والجرأة، الهشاشة والغلظة".
الكتابة هي الطريقة الوحيدة التي يتمسّك بها الفلسطينيّ، ليثبت حقه جيلاً بعد جيل، هكذا لا يُمكن أن تُنسى القضية
إنّ أقسى ما نتج عن الاحتلال أفراد موّزعين يحمل كلّ منهم نفس الكنية، ولكن لم يعش أيّ منهم على نفس الأرض، ولم يدفن كلّ منهم معاً، جماعات متفرقة، وفق هويات متعدّدة، ليبقى كلٌّ منهم محمّلاً بما يسمّى "ثرثرة العمر"، ولا يكون هناك عمر لتكون هناك ثرثرة، ويبقى كلٌّ منهم يثرثر فرداً أعزل لوحده.
يتحدث البرغوثي في "رأيت رام الله" عن هزيمة حزيران باعتبارها عقداً لأبناء ذلك الجيل، إنّما هي عقدة لكلّ جيل من بعد ومن قبل، احتلال فلسطين عقد هزيمة في نفس الفلسطينيّ، أن تصحو على وطن محتل بوعي مهزوم بحدّ ذاته هزيمة. الشاعر الذي لا يظنّ نفسه سياسيّاً ولا يصلح للعمل السياسيّ، قدم للعالم مشاعر اللاجئ بكلّ ما يجرح من خفة، وعلى الرغم من أنّ التدابير السياسية تتطلب حدساً وحشياً لا حدساً رقيقاً، إلّا أنّ فلسطين لن تتحرّر إلّا بذاك وذاك.
بعبارة أخرى؛ فإنّ السيرة الذاتية لمريد البرغوثي عمل فني أدبي للاجئ فلسطيني يقضي ليلته الأخيرة في رام الله تحت نافذة مطلة على مستوطنة، وعند تجاوز الجسر الخشبيّ يتجاوز أيّامه وتفاصيل عمره الماضي، على الرغم من بقاء الذكريات على جدران دير غسانة إلّا أنّ لملمة شتات الحكاية ضروريّ بعد كلّ مغادرة، درءاً لاحتلال الذاكرة، فالإنسان الذي خرج من فلسطين طالباً إلى القاهرة لم يعد من رحلته التعليمية إلا بعد ثلاثين عاماً، من يدري إن ترك ذكرياته على الحائط، كيف ستحتل ما تُدعى "إسرائيل" الجدران؟
بعد ثلاثين عاماً من المنفى القسري يتوّجب على الابن أن يبلّغ فلسطين أنّ هناك فرداً جديداً من دير غسانة يدعى تميم، سيقدّم له تصريح في المستقبل، ويكتب في القدس، وتصبح أبلغ قصيدة للعاصمة الفلسطينية في القرن الواحد والعشرين، وبعد 75 عاماً على احتلال فلسطين وبالرغم من سنوات الحرب، سيقدّم كلّ فلسطينيّ لاجئ نفسه و"حمولته" إلى البلاد، ليكتب كل منّا عن اللّد وجنين والناصرة وقلقيلية ويافا وعكا وحيفا وصفد ورام الله، قصائد وحكايات وقصص.
لذلك لا يجب أن تحفل السير الذاتية بالمحطات الصعبة، والتحوّلات، والتغيّرات الجغرافية، والمنعطفات فالإنسان العاديّ لا يحتمل الوجع دون التعبير عنه، دون استدعاء الذاكرة، والكاتب يحتمله لأنّه يستطيع أن يعبّر عنه، والذي يسلب الروح ألوانها عدم تأمل الأحداث وتذوّق الفرح والنظر إلى الحقيقة الماثلة أمامه، أنّ الماضي هو الآن، والآن يجب أن يكتب.
كاتب التاريخ الآن هو من يكتب سير من لا سير لهم، من ينسى نفسه في سيرهم، من يتتبع سيرة كلّ فرد كأنّها سيرته الشخصية، لأنّ سيرته سيرتهم، سيرة شعب بأكمله، هذه ليست رواية، إنّما حكاية شخصية.