بلال عقل... هل سنروي القصة أم نكون منها؟

20 يوليو 2024
+ الخط -

أبدًا لا نعرفُ كلّ شيء، ولن نحيطَ تصوّرًا وإدراكًا بكلِّ ما يحدث، لن نستطيع أن نعرف حقًا كيف يرحل هؤلاء الشهداء دفعةً واحدة، ومن دون وداع. إنّها الحرب، وقد أثقلت القلب، وعارُ العرب باق للأبد. يبقى السؤال كيف يرحلُ الشهيد، وفي صحبته سماء واسعة من الأحلام، وقصائد طموح لا تنتهي؟ أقصد كيف يرحلُ بلال؟

عنوانُ هذا المقال، جملةٌ لطالما ردّدها، هل سأروي ما حدث، وإن لم أرو، من سيتحدّث عنّي، عن 26 عامًا كان فيها الكثير من الأصدقاء، والطرقات، والأغاني، الكثير الكثير من التخطيطِ وحبّ السفر، الآن وأنا أكتب هذا الرقم (26) أدركتُ كم حربًا مرّت عليه، وكم حربًا شخصية مرّت أيضًا، والآن أسأل: كم حربًا على الغزيّ أن يعيش؟

منذ اليوم الأول للحرب، أحاولُ الكتابة. لا عن رأيٍ سياسي وتحليلٍ عسكري، ولا حتى عن آليةِ إعادة إعمار غزّة عقب انتهاء الحرب، إنّما أحاول الكتابة عن غربةِ الشعور، عن الـ"يا وحدنا" التي يعيشها الغزّيون، عن شعورٍ ملعون، عن أولئك الذي تقطّعت بهم سبل الحرب وتفرقوا بفعل القدر، أريد أن أكتبَ للغزيّين خارج غزّة. وطيلة أيّام الحرب كنت أحاول الكتابة، لصديقي بلال، ولا أعرف بعد "طمني عنك"؟ ماذا سوف أسأل، لذلك استبدلتُ هذا السؤال بأكثر ما يحبّه بلال، أي القهوة.

-كيفك منيح؟

-بخير وزي الفل.

-شربت قهوة.

-لسه والله.

هذا نصّ المحادثة الأخيرة، بعد ساعاتٍ سيُقصف منزل بلال وسيرتقي والده شهيدًا، ولم أفكر إلّا كيف سأعزّي بلال بأبيه، وكيف سيحتمل حياة ليس فيها إياد! وما هي إلّا ساعات ليصلَ نبأ استشهاد بلال، ويتوقف العالم عن الدوران، وأحاول تصديق ما حدث، وانتظار رد على رسائلي: "أنا بخير تقلقيش".

الآن عرف العالم طريقه لصفحةِ بلال، يقرأ ما كان يكتبه قبل الحرب وخلالها، ربما أدرك جمال قلب هذا الإنسان الذي رأوا صورته للمرّة الأولى، ربّما عرفوا حقًا لماذا اصطفاه الله شهيدًا، لكن بالتأكيد لم يعرفوا بلال الذي نعرفه، ذاك الذي يوزّع حبّه على الجميع، ويقف إلى جوارِ من يعرفهم ولا يعرفهم، عاشق الفن والأدب والجمال والسينما، كان يحب أن يغني، وكانت لديه ابتسامة، الآن عرفت لماذا اختصّه الله بها.

الصورة
بلال عقل
الشهيد بلال عقل. (صفحة بلال على "فيسبوك")

 كنت أُعبّر له عن الخجل في سؤالِ الاطمئنان، ليتفقدني بعد أن أغيب ويخبرني: "أنا بخير، تخجليش تسألي". كان يعلم أنّه خجل عربيّ، الخجل من استمرارِ الحرب كلّ هذا الوقت، استمرار الأفراح والمناسبات والتهنئات، إنّه الخجل من الصمت، ومن اعتيادِ المشهد، من التعامل مع كلّ تلك الأرقام على أنها أرقام فعلًا، وليست روحًا ودمًا!  كيف يمكن أن نقنع العالم بالتحرّك؟ قبل أن تحاسبنا دماء الشهداء!

بلال لمن لا يعرفه، حديقة بيضاء ناصعة، ممتدة من بحرِ غزّة إلى القدس. هو يعرف كيف تسيرُ الحياة، لذلك يستهزئ بها بخفّةٍ. قد تعطيه ما يريدُ، فيفرح، وقد لا تعطيه ما يريد، فيحتفل بالعثراتِ الصغيرة كأنّها بداية طريق النجاح. يبحثُ عن السعادةِ دائمًا، ولا يفوّت فرصة، لذلك، يكتب، يكتب كثيرًا، الشعر والقصة القصيرة، يحرّر المواد لأصدقائه، ويستمع لهم بإصغاء، يقدّم لهم الحل السحري، الذي يبدأ بـ"شد حيلك بصيرش هيك".

بلال أكبر من كلّ هذا الكلام، واللغة التي أحبَّها تعجز عن إعطائه حقّه، بلال المثقف، تلك الثقافة البسيطة والقريبة إلى القلب، تلك التي تشعر معها أنّك أمام إنسان حكيم صقلته التجارب، عالِمٌ هو بشؤونِ الحياة وتفاصيلها المُملة، يسيّر الدنيا على مزاج أحلامه، وكيفما شاء رأى الأشياء.

بلال ومسيرات العودة!

الكثير عرف بلال في هذه الفترة، ليس بوصفه مشاركًا مخلصًا فيها وحسب، إنّما مدافعًا شرسًا عن ضرورتها وأهميّة التمسّك بها، وكما كانت مسيرات العودة مشروعًا وطنيًّا طموحًا، يشكّل حالة من الإجماع الفلسطينيّ، كان بلال أشدّ طموحًا منها بالضرورة، حيث وظّف بلال مسيرة العودة لإيقاظِ الفلسطينيين لأجل التمسُّك بحقهم في هذه الأرض.

وقال: "أظهرت مسيرات العودة نتائج قوية ومخضعة للمحتل، هذا ما نفهمه، وهذا ما تعلمناه، إما أن نكون ندًّا دومًا، أو أن نقاوم ما دمنا هنا، ولسنا نتبع سياسة لا نموت ولا نحيا، لا نريد المال والكنافة النابلسية، نريد فك الحصار، هذا فقط، وليرحل كلّ مستوطن عرص إلى أرضه في أي داهية كانت، النتائج التي حققتها مسيرات العودة عظيمة وجيدة، وهي بداية لرفع الحصار بالكامل، ولكننا لم نحققه، لذلك سوف نستمر.. مجددًا إلى حدود غزّة اليوم".

البحر في غزّة، يحمل معنى مختلفًا، في الفرح والحزن، النجاح والفشل، الحب والانفصال، الضياع والوجود، في الترحال والإقامة

حينما يرى الإنسان أنّ الأفكار التي يؤمن بها على شفا حفرةٍ من أن تتحقّق، يتجه نحوها بكلّ ما فيه، مُغمض العينين، وإن لم تكن منطقية في نظر البعض، لكن بلال كان يذهب كلّ يوم حتى بعد إصابته، ولم يترك شأن المقاومة، كان صارمًا في آرائه ولا يتقبّل الجدال، ويقول: ليست مجرّد آراء إنّما حقائق، كحق العودة وأوسع من ذلك. 

أُصيب بلال في وجهه بمسيرات العودة، سرقوا غمازة جميلة كانت على خدّه، مع كلّ نظرةٍ للمرآة كان يجدّد حقده ويعزم على مواصلةِ ثأره، لذلك كان أول من بارك فعل 7 أكتوبر.

بلال الكاتب!

لن تُخفى تلك الموهبة الأدبية على أيّ إنسان، هناك لغة شاعرية وجميلة يمكنك قراءتها في قصّةٍ قصيرةٍ يكتبها، أو نصِّ على "فيسبوك"، حتى عندما يكتب عن صديق، ترى الحروف تنطق، لكن ما بتُّ ألمسه في كتابته مؤخرًا، هي نبرة المودّع، أتذكر أنّني عاتبته على ذلك، فابتسم، وساد الصمت.. عرفتُ ما يقصد وعرف ما أقصد.

للأدب الفلسطيني نوع من النبوءة والعزيمة، الجميع في فلسطين يكتبون، من يسكن فلسطين ومن هو خارجها، لا تجمعنا ظروف مشتركة، أقصد ظروفًا معيشية، إنّما يجمعنا عقلٌ يصوّب نحو الهدف، حقّقه أم لم يحققه، عليه أن يموت في سبيله، لذلك أسلوب بلال عقل كان يشبه من وجهةِ نظري أسلوب غسان كنفاني، كان بسيطًا لكنه يعرف قيمة الكلمة، يستحيل أن تجد جملة من دون معنى، أو مفردة وُضِعت فذلكة، كلّ حرف ينزّل بمقدار، وفي قدره.

يقصّ مغامراته بطرافة، يقدّم رأيه بجرأة، ويعرف متى يجب أن يكتب الفكرة بأسلوبٍ أدبي، ومتى عليه أن يكتبها شتيمةً

يقصّ مغامراته بطرافة، يقدّم رأيه بجرأة، ويعرف متى يجب أن يكتب الفكرة بأسلوبٍ أدبي، ومتى عليه أن يكتبها شتيمةً على "فيسبوك".

لكن بلال في هذه الحرب كان قد أدرك أخيرًا أنّ الكتابة لغة لا تخصّ الفلسطينيين، لأنّها لغة الرفاهية، فالحزن الذي نعيشه لا يتحمّله القلب، ولا يقدر عليه الخوف، تفوّق الموت على كلّ شيء هذه المرّة.

بلال!

لا أعرفُ شخصًا في العالم كانَ طموحًا مثل بلال. عيناي لم تشهدا شابًا بطموحٍ جامح، وسعيٍ لا يكّل وعزمٍ لا يمل، وإرادة لا تميل، هذا بلال مع نفسه، وكان على حلمِ أصدقائه أقسى، يحبُّهم ويقضي وقته معهم، ولا أثمن من ذلك الوقت لديه، لذلك دفعهم نحو أحلامهم، وإن كانت خارج غزّة، ودّع إخوته للدراسة خارج غزّة، يُتقن دور الأخ الأكبر ويطبّقه، ودعهم للمستقبل، ولكن عن أيّ مستقبلٍ نتحدّث، وقلوبهم الآن مليئة بالحزن والكمد، وموت أحبابهم ليس كافيًا لينهي الحرب، وهذا يعني شلال وجع لن يتوقف إلا بموتِ المزيد، حتى إن لم يكن كافيًا.

البحر في غزّة، يحمل معنى مختلفًا، في الفرح والحزن، النجاح والفشل، الحب والانفصال، الضياع والوجود، في الترحال والإقامة، بحر غزّة باق، وإن جرى كلّ ما جرى على تلك المباني، وبلال أحبّ بحر غزّة بشكلٍ مختلف، كان يرى فيه أبعد ممّا هو خلف البحر، ربّما الحريّة، ربّما "يبنا" قريته التي هُجِّرَ وأهله منها في (1949).

إلى بلال!

أمّا بعد،

بالتأكيد لن تقرأ هذا، لكن أعرف حقًا أنك ستشعر به، سأكتبُ عنك في كلّ مكان، وأضعُ صورتك على الجدران، خبر استشهادك أيقظ فيّ مشاعر أعرفها للمرّة الأولى، ولأنّه كما أخبرتك، من غير الممكن أن يُقال غزّة ولا أردّد بلال. لقد دفعتني لأعرف غزّة للمرّة الأولى بشكلٍ حقيقي من خلالك، والآن عرفت وجع الصديق الشهيد، ومعنى أن يرحل الأحبة دون وداع، وفي رسائل عادية لا تشير لإيذان موعد الرحيل!

علّمتنا يا صديقي أكثر مما تتصوّر، كان حضورك آية، لم نكن نعرف الحزن بوجودك، لم يكن لديك رفاهية كلام الحزن، تفكّر فيما بعده، الخطوة القادمة، وتمضي في سبيلها، لم يكن هناك أكثر مناورة منك، في الشدِّ والجذب، والمحاولة مرّة أخرى من جديدٍ، بكلًّ بسالة وعنفوان!

لن يستوعب العالم الملعون ماذا يعني أن ترحل، وتتركنا خلفك نبحث عن سبيلك

ربّما أكتبُ لك الآن وهنا، لأنّني لن أتقبّل إرسال رسالة لك وتبقى عالقة من غير رد، لا شكّ أنّه ألمنا الخاص، لن يستوعب العالم الملعون ماذا يعني أن ترحل، وتتركنا خلفك نبحث عن سبيلك.

المهم.. أنّ علينا ألّا ننسى ما حدث، ليس فقط في ما بعد أكتوبر، إنّما علينا أن نحارب الإسرائيليين كما تفعل غزّة الآن، كما تفعل مخيّمات الضفة، كما يفعل محرّرو الجرائد والحكاية، قد تنقل وكالات الأنباء خبر استشهادك في فقرة حصاد اليوم، لكنّي سأنقل خبر استشهاد غسان كنفاني مرّة أخرى، وهو يحلم بعالمٍ لفايز ولميس، وأنت الذي لا تحلم إلّا بعالمٍ لريما ومحمود ذي الأربع سنوات، ذلك الأخ الذي لم يكن يتوقف عن الأسئلة، ولم يكن يتركك تتمتّع بالنوم كما يفعل الأطفال، محمود سيئ الحظ، لن يعرف أخاه الكبير، ونقاشاته الحادة، وحواره العميق، لكن بالتأكيد سيحمل صفاتك، وملامحك، وسيعرفُ كم نالَ من شرفِ أنّكما تحملان كنية الأب نفسها، الشهيد أيضًا، بلال ومحمود إياد عقل.

شكرًا يا بلال لأنّك من بلادنا، ولأنك صديقنا.

وداعًا يا صديقي، يا أعزّ الأصدقاء، ويا كلّ الأصدقاء.