سورية لا تتسع للفعاليات الجميلة
هل سيأتي يوم تشهد فيه سورية المنكوبة فعالية كبيرة على مستوى الوطن العربي أو العالم، أو أنّ هذا حلمٌ بعيدُ المنال؟
بالتزامنِ مع مهرجان المسرحِ العربي الذي تقيمه الهيئة العربية للمسرح في الدار البيضاء/ المغرب ما بين 10-16 يناير/ كانون الثاني، كانت مشاركة سورية الفعلية فيه؛ فقط بمسرحية واحدة لبعض المدن السورية، بالإضافة إلى اختيار مسرحية سوبر ماركت، من تأليف داريو فو وإخراج أيمن زيدان، للمشاركة في المهرجان إلى جانب خمس عشرة مسرحية أخرى اختارتها الهيئة من بين أكثر من مئتي عرضٍ مسرحي تقدّم إلى المهرجان.
ربما من الجيد أننا ما زلنا نجد ترتيباً متقدماً لإنجازٍ سوري على مستوى الوطن العربي، لا لضعف قدرات السوريين، وإنما لصعوبة الحياة والمآسي التي يعيشونها والتي أبعدتهم عن الثقافة والإبداع.
منذ دخول التلفاز على حياتنا تأثّر صخبُ المسارح والسينما كثيراً، حيث قلَّ ارتيادهما بعدما كانت المسارح تعجُّ بالجمهور الذي تابع بشغف مسرحيات كبيرة ومهمة لمسرحيين سوريين، أسّسوا دعامات المسرح السوري والعربي في جوانب عدّة منه.
إذ إنّ الجذب المسرحي الذي صنعه مؤسّس المسرح السوري، أبو خليل القباني في أواخر القرن التاسع عشر، وبالعمل مع إسكندر فرح، والذي يعتبره البعض المعلم الأول لكثير من رواد المسرح في سورية ومصر، ومن ثم جهود الفرق المسرحية المتعدّدة التي ظهرت منذ أوائل القرن العشرين وقدّمت عروضاً كثيرة، وبعدها تألُّق سعد الله ونوس وفرحان بلبل "ممثلي الاتجاه الماركسي في المسرح السوري"، وأيضاً وليد إخلاصي "ممثل الاتجاه الوجودي في المسرح"، وعلي عقلة عرسان "ممثل الاتجاه القومي"، ومسرحيات محمد الماغوط ذات الطابع السياسي والاجتماعي الناقد والجريء... كلّ ذلك لم يستطع الإبقاء على شعلة المسرح متوّقدة، ولا على قوة الاستقطاب ذاتها التي كانت سابقاً بعدما دخلت التقنيات الحديثة إلى حياتنا، واستطاعت نقل العروض المتنوعة إلى داخل المنزل دون تكلّف عناء الذهاب لحضورها.
ما زال لدينا أملٌ بعودة الحياة إلى المسرح ولو بعد حين، ويبقى الأمل بأن ننظم احتفالية ثقافية أو فنية ضخمة في هذا البلد المنكوب ولو بعد سنوات
ونظلّ نتساءل عن سبب خفوت جماهرية المسرح: هل هي النصوص المُقدَّمَة أم الإخراج أم ضعف الدعاية والإعلان أم قلة تمويل المسرحيات أم ضعف الثقافة المسرحية لدى الناس، وانشغالهم بأمور حياتهم؟ ربما كل هذه الأسباب مجتمعة وأكثر. فالمسرحُ أمرٌ ترفيهي لدى الغالبية، ولو أنّ سعر البطاقات زهيدٌ جداً إلا أن ضغوط الحياة الكثيرة وصعوبتها جعلت السوريين غير مباليين بأي أمر لا يرتبط بمعيشتهم ارتباطاً مباشراً.
منذ القدم نادى أرسطو بأنّ وظيفة المسرح هي "التطهير" أي تطهير النفس البشرية من عواطفها الزائدة وإصلاحها "لا سيما عاطفتي الشفقة والخوف"، ورأى أنّ المسرحية التي تجعل الجمهور يبدأ بالبكاء تكون قد أدت وظيفةً مهمةً وساهمت في التخفيف من انفعالات النفس وتهذيبها والتخلّص من آلامها. إذاً لِمَ لا ينجح المسرح في أن يكون للتطهير فعلاً، ويُقدَّم على هذا الأساس بشكلٍ أكثر فعاليةً، لا سيما أنّ سورية تربة خصبة لأداء وظيفة كهذه والناس بحاجة إلى تطهير نفوسهم أكثر من أي شيء آخر؟
إنّ مباشرة العرض المسرحي ووجود الممثل والمتفرج في جوٍّ واحدٍ وبقعة واحدة يجعلان المسرحَ أكثر صدقاً وواقعيةً وأقرب إلى عقل المتفرج وقلبه، وبالتالي ستكون وظيفته أكثر نجاحاً، وتأثيره أكثر عمقاً.
من المعروف أنّ التكنولوجيا قد أثّرت على الثقافة بشكلٍ سلبي في جوانبَ عدّة، حيث انشغل العالمُ بها عن الأدب والمسرح والفن، لذا لا بد من دعمها بقوة مالياً وتوعوياً، ومنح الفرص لهواة المسرح ودارسيه بشكل عادل، والتنسيق بين المسرح الرسمي والخاص، لا أن تعمل كل جهة لوحدها ولصالحها فقط، وتشجيع الناس للعودة إليه كي يعود للمسرح ألقه ودوره الفعّال في المجتمع. وهذا لا يكون بإنجازات فردية ضئيلة، وإنما بجهود دولة أو مؤسسة أو منظمة قوية تملكُ دعماً مالياً أولاً، ورؤيةً ثقافيةً متحضّرةً أيضاً.
نحن في سورية اليوم نشارك في مهرجان المسرح العربي، ولكن مشاركة خجولة تعكس مأساوية الحياة هنا، وانشغال الناس بهمومهم وأعبائهم عن أيّ شيء آخر. هذه الهموم والآلام باتت تحتاج إلى مسرحيات عظيمة وكثيرة تطهّر نفوسهم وعقولهم من الأحزان المتراكمة بقوة داخلهم.
ولكن، رغم كل شيء، ما زال لدينا أملٌ بعودة الحياة إلى المسرح ولو بعد حين، ويبقى الأمل بأن ننظم احتفالية ثقافية أو فنية ضخمة في هذا البلد المنكوب ولو بعد سنوات.
وتظل رسالة الهيئة العربية للمسرح ساطعة في أذهاننا: "نحن كبشرٍ زائلون، ويبقى المسرح ما بقيت الحياة".