سطوة الفضيلة الأدبية ونرجسية القارئ

07 سبتمبر 2022
+ الخط -

قال بيسو يوماً: "لم أعد أقرأ إلّا الجرائد، ولم يعُد شكسبير قادراً على تعليمي كيف أكون ثاقب الفكر". قد يتبادرُ لنا من هذه الجملة شكلٌ من أشكال التبّاهي والإعجاب بالذّات، وقد لا يعجبنا الأشخاص الذين يملكون القُدرة على مدح أنفسهم بسهولة ودون عناء انطلاقاً من تجاوز أعراف الآخرين، وهذا خلل يتعلّق بنا لا بهم، لأنّنا لا نسأل مطلقاً أنفسنا ماذا لو كنّا نحن من نتجاوز بدلاً منهم؟ ألا يحقّ للكاتب أن يُمارس تقديره لذاته دون أن يلاحقهُ العالم بالفضيلة ويلطّخه بالنرجسيّة؟ وهل حقاً حينما يتحدّث عن إنجازاته يقُوم بالاعتداء على حق الآخرين في الحديث عنه؟ ألا يحقّ له الحديث عن نفسه؟

يعيشُ الأديب حياة مليئة بالحذر خارج ورقته البيضاء، مثلما يعيشُ أدباء آخرون حذرهم داخلها، تفرضُ عليه الحياة الأدبيّة سلسلة من المتطلّبات فور تمكنّه من الانتشار، وتطالبه بأن يردّ في كلّ مرّة على الأسئلة الموجّهة إليه بالشّكل الفاضل الذّي وجب سماعه، وهذا ما يجعلنا نراه يتلعثمُ حينما يتحدّث، وقد يبدو خجلاً كثيراً على عكس جرأته في الكتابة، وتبدو كلماته وكأنّها تبحثُ عن قياس يتلاءم مع جسد حُدّد مسبقًا، فيفقد مقدرته على الكلام، لا لأنّه يعجز عن تركيب جمله الشفهيّة، بل لأنّ قياس هذه الجمل تحديداً يبدو شريراً للآخر، وما إن يتجرأ على اختيار قياس حقيقيّ لجسد الكلمة حتّى تهجم عليه القياسات القديمة وتُدينه بالتّعالي عليها، وبهذه الطريقة تمّ سحب الكثير من الآراء الحرّة وتعليقها من رقبتها، وأصبح الكاتب إذا ما تحدّث انسحبت منه لغته وسيطرت عليه لغة المجتمع الأدبيّ الفاضلة، فهل يخترع النّاس الفضيلة بغية إخراج أجمل ما فينا أم أنّها تتحول إلى كتمان أجمل ما فينا؟

صرّح الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا في إحدى ندواته الأدبيّة في الجزائر قائلاً: "أنا من أوصلت الرّواية الجزائرية إلى العالمية"، مستمداً القوة في إجابته هذه مما يقدّمه أدبياً ويستجاب له عن طريق الأرقام الكبيرة لمبيعاته، إنّه مقروء وتُرجمت أعماله لأكثر من خمسين لغة وحول بعضها إلى أعمال سينمائية ومسرحيات، هذا ما يتمناه أيّ كاتب. جملته حقيقيّة بمنظوره الخاصّ إذا ما اعتمدنا في حديثه هذا على المعايير نفسها التّي جعلته يتوصل إلى نتيجة كهذه، واعتراض البعض حقيقيّ أيضاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار معاييرهم التي تتمثّل في استحضار محمد ديب وعمله "الدار الكبيرة"، وكاتب ياسين في عمله "نجمة"، وآسيا جبار في روايتها "العطش" وغيرهم، لكن هل كان ياسمينة نرجسياً حقاً وهو يصفُ نفسه أدبياً؟ هل محمد مولسهول القارئ من تحدّث عن الكاتب ياسمينة خضرا في الآن ذاته؟ ماذا عن نرجسيّة القرّاء؟

متى يتخلّى القارئ النرجسيّ عن فكرة التّواضع الذي يقصدُ به إنكار الذّات؟

تلقّف الوسط الأدبيّ الجزائري تصريح ياسمينة خضرا بالكثير من الرّفض، واعتبره نوعاً من التّطاول على من سبقوه في الخروج من ذلك الباب، باب عالمية الرواية الجزائريّة، وأصبح تصريحه شبيهاً بالرّذيلة، بالرّغم من أن الكاتب كان صادقاً في حديثه، وصدقه الذّاتي الذي صرّح به انطلاقاً من نفسه لم يعتدِ به على الأدب ولا على الذين سبقوه إلى العالمية أمثال محمد ديب ومولود معمري، رشيد بوجدرة، آسيا جبار، كاتب ياسين، بل على القارئ الأدبيّ كما يبدو، هذه الأذن التي تريد بدورها سماع ما اعتادت على سماعه من مديح عن كاتبٍ ما لكن ليس من فم الكاتب نفسه، لن تغفر هذا الشّر الذّي يجعلها تشعرُ بالعجز، عجز تقدير الذّات، فتُسارع إلى صبغ هذه التّصريحات بمصطلحات غير فاضلة، كأن تتحدّث عن نفسك وأنت فرح بنفسك فتطلق عليك صفة النرجسيّ.

المجتمع الأدبيّ لا يختلف كثيراً عن المجتمع العام، لقد نقل طِباعه العامّة إلى الأدب أيضاً، وحتى يضمن السّلامة الأدبيّة واستمراريّة النوع، وضع لها طابع الإجبار والإلزام، وبمرور الوقت اكتسبت القوى الإجبارية أدبيًا شكل التّقاليد والأعراف، وتحوّلت إلى ما نسميّه "الضّمير الشخصيّ" الذي يراه الفيلسوف نيتشه أكثر من سلطة مستبطنة، وهكذا نشأت مفاهيم الفضيلة الأدبيّة والأديب الفاضل، فحب السّيطرة يمكنه أن يمنعك من الحديث عن نفسك بطريقة أدبيّة قاهرة.

فرشيد بوجدرة الذي صرّح يوماً قائلا: أنا أوّل من أدخل الجنس إلى الرّواية العربيّة، كان من المُعترضين على تصريح ياسمينة خضرا، وهنا لا نعلم هل ندافعُ عن حقّ الكاتب في الحديث عن نفسه وتقدير ذاته أم أنّ الكلّ تحوّل من فن أدبيّ إلى سلطة أدبيّة، ففي الأرجاء الثقافيّة أشيع عمدًا أو من دون قصد أنّ الفضيلة تكمُن في التّواضع وإنكار الذّات، وعليه احتجزت الآراء وأطلقت الأحكام المسبقة، وبقي الأديب متهماً بالتّعالي كلّما تحدّث عن نفسه بصدق، هذا الخطف الأخلاقي جعل الكثير من الأدباء يبتلعُون بكثير من الأسف حقهم في تقدير ذاتهم، هم جيدون كلّما أنكروها، الجماهير وحتى الوسط الثقافي يطالبهم بأن يصمتوا، أن ينتظروا من مجهول ما الحديث عن منجزاتهم المُستحقة، وفي ذلك الانتظار الطّويل والصّمت المسلط تمضي الكثير من الأسماء الأدبيّة الرائعة بعيداً عن قرائها، وينسى أو يتناسى هؤلاء السلطويون أن الأديب يحتاجُ إلى من يشيرُ إليه مثلما تحتاجُ الحدائق الجميلة البعيدة عن المدينة للحديث عنها، أن توضح الطريق التّي ستأخذنا إليها لنعيش تلك الجولة سيرا على أقدامنا، بدلاً من أن تعزلها بصمتك عنها، وإذا لم يتوفّر كل هذا فيكفي أن تطلق ورودها وأزهارها عبيرها في الأرجاء لتقوم الحديقة بنفسها بالحديث عن نفسها، إنني أشتركُ مع هنري ميللر في نقطة ضعفه الجميلة التّي أشار إليها في حديثه يوماً عن القراءة، وهي الصّياحُ من فوق الأسطح عندما أعتقد أنّني اكتشفتُ شيئاً ذا أهميّة حيويّة.

فمتى يتخلّى القارئ النرجسيّ عن فكرة التّواضع الذي يقصدُ به إنكار الذّات؟

يحبّ القارئ الكاتب المتواضع تواضعاً يشبه البُخل، ذلك التّواضع الذي لا يشعرهُ بالحرج، والذّي يطالبهُ من خلاله بأن يكون في متناوله، يرفض القارئ النرجسيّ أن يتفوّق عليه الكاتب، بأن يتحدّث عن نفسه بنفسه، في علاقة يكون فيها هو الوحيد الذي يحقّ له الحديث عن الأديب، يحبّ رؤيته صامتاً يصعبُ عليه تقدير ذاته، يريدُه ضعيفاً أمامه يسهل عليه – إذا لزِم الأمر – إسقاطه أو التّقليل من شأنه، لهذا يعاني هذا النّوع من القرّاء - سواء أكانوا قراء فقط أم قرّاء وكتّاباً في الوقت نفسه - من نرجسية مغلفة جيدا بماهيّة "التّواضع"، سلطة تحت غطاء الفضيلة، فنراهم على حقّ دائم طالما يمنحُهم هذا التّخفي مساحة مُريحة لتغطية "الأنا" تحت الآخرين، إنّهم إذ يدافعون عن فضيلة "التّواضع" المشبوهة هذه يقومون بالدّفاع عن "أناهم" في الوقت الذي تظنّ فيه أنّهم يدافعون عن الآخرين، فالكاتب القارئ مثلاً سيدافع عن أسماء أدبيّة أخرى، ربّما ليس تقديراً لهم فقط بل تقديرا لذاته من خلالهم، فالكثيرون لم يملكوا شجاعة الرّد على ياسمينة خضرا انطلاقاً من ذاتهم ومنجزهم الأدبيّ كما فعل هو حينما دافع عن نفسه انطلاقاً من نفسه، وقد لجأ البعض إلى تبنّي فكرة تقليدية باهتة تعتمد على ربط الأعمال الأكثر مبيعاً دائماً بالعاديّة، ووصفها بالشعبيّة، هذا الوصف غير الأدبيّ الذّي يخلق طبقيّة مقيتة داخل الأدب بين القرّاء والكتّاب على حدّ السّواء يرادُ به التّقليل من الكاتب ومن قرائه دُفعة واحدة، وكأنّ الكاتب الذّي تقرأ أعماله النّخب ليس كالكاتب الذّي يقرأ أعماله القارئ العاديّ أمثال ميسو وياسمينة خضرا وهي مقولة مبطّنة تحمل نرجسيّة مريضة تعني أن ما يُعجب العامّة بالضّرورة سينقصه ذلك الرقيّ الأدبيّ المُصان داخل الأكاديميات الأدبّية الأرستقراطيّة. حدث هذا الأمر مع أعمال جين أوستون قديماً، وامتنع هنري ميللر عن قراءة "مرتفعات ويذرينغ" لكثرة الحديث عنه وطلبه مستنتجاً بطريقة ساذجة أنّه من المستحيل أن تكُون رواية إنكليزية ومن تأليف امرأة بتلك الجودة، لكنّه ما إن استقرّ بين يدي "جين فرادا" وسار في دمه سمّها حتى اكتشف أنّه كاد أن يفوّت على نفسه واحدة من أعظم الروايات بسبب تهوّره وكبريائه وتحامله.

دلالات