من النّهر إلى غرف فيرجينيا وولف في أبها
إن لم يكُن لكَ كوخ مارتن هايدغر على مُنحدراتِ تلالِ الغابة السّوداء في تودتناوبيرغ، أو جرّة ديوجين، فيمكنكَ أن تمشي مثلما فعل هانز غادامير وفريديرك نيتشه، يُمكنك أن تذهب مع جان جاك روسو في رحلةِ الوحدة التّي لا تعني أنّك متروك، بل كتعويضٍ مثل عزلة فيرناندو بيسوا التّي عوّضته حبيبته الواقعيّة بعشيقة خيالية، إنّها "سيرك العُزلة" عند إميل سيوران الذّي عاش منعزلاً في غرفةٍ لأحد أصدقائه في قلب باريس لمدّة أربعين عاماً، إنّها "أثر الفراشة" عند محمود درويش و"النّضج" عند فيودور دوستويفسكي و"وطن الأرواح المُتعبة" عند إرنست همنغواي، و"البلد المُزدحم" عند رافائيل ألبرتي. إنّها حاجة ملحّة، وقد وصف هنري ديفيد ثورو حاله فيها، قائلاً: "لديّ شمسي وقمري ونجومي، وعالم صغير كلّه لي"، أن تُمسك يدك يدَك الأخرى في صالة السينما "أقول أنا".
فمن منّا لم يُفكّر في غرفةٍ بعيدةٍ عن الحُشودِ لنفسه المليئة بالحُشود؟
يعيش الكثير من النّاس أعمارهم حالمين "بغرف لوحدهم"، يلجؤون أحيانا إلى إغلاقها من الدّاخل على من يشاركُونهم تلك المساحة، ولو لساعاتٍ سعياً إلى تحقيق تلك الرّغبة في الحُصول على الخصوصيّةِ أو الفردانيّة التي يمكن للذّات فيها أن تكون أناها بلا مُقاطعة، فيشعرُ الجسدُ المُنعزل بعريّه تماماً من كلِّ بروتوكول الحياء أو قوانين الشّراكة في غرفةٍ واحدة، ألا تكون وحيداً بل أن تكُون برفقة نفسك حتّى بصوتكما المُرتفع، وفكرة "معتزلات الكتابة" هي الفكرة التّي أكّدت عليها فيرجينيا وولف في عملها "غرفة تخص المرء وحده"، ربّما لم تقصدها كمشروع دولة، وإنّما كمشروعٍ اجتماعي، لكنها تحوّلت إلى ذلك، لقد تبنّاها العديد من المؤسسات الثقافية في العالم، بحيث أعادت لتلك الأقدام الغارقة مقدِرتها على النّهوض والسّير نحو عناوين مُختلفة لفتح أبوابها واستقبال مبدعيها. إنّني أراها (فيرجينيا) تخرجُ من النّهر، تُفرغ جيوبها من الحجارة، وتتقدّم نحو الوُجود، وفوق تلك الجِبال السعوديّة تُلقي بعباءتها وتنزلُ لتُلامسَ ذلك الصّمت الرّهيب للنّساء المُبدعات خلف نقابهنّ، ليست الغُرف التي تخصّ المرء وحده ما يمكنُ لمسهُ، بل ماهيّة تلك الجُدران التي تسرّبت أو ستتسرّبُ إلى خرساناتها الإبداعات المرجوّة للعالم أو التي أصمتها العالم، هذا العالم الذّي منحها غرفاً لتُطلقها هو العالمُ نفسه الذّي منحها غرفاً ليصمتها، وبين غرفِ فيرجينيا وولف وغرف العالم يقفُ مفهوم الأبواب، لا مساواة بين من يغلقُ على نفسه من الدّاخل ومن يُغلقُ عليه من الخارج. أن يكون لديك مفتاحٌ لغرفتكَ، أو تكون لديك غرفة بمفتاحِهم. ففي العالم ثمّة شكسبير وأخت شكسبير الموهوبة المتخيلة "جودت"، تلك التّي لم يكن لها صوتٌ حتّى لو منحتها فيرجينيا غُرفة تخصّها لوحدها. لقد استوقفني وصفُ بيتر وولش في رواية "دالاوي"، والذي بإمكاني أن ألقيه على ظِلال أخوات شكسبير العديدات: "إنني مغرمٌ، ليس بها على كلّ حال، بل بأخرى نشأت في العتمة بحيث لا يُمكن مساسها، إنّما يجب عليك إلقاء إكليلك على العشب في الظلام".
وفي السعوديّة أحسست بهنّ قريبات للغاية، أبها المكلّلة كتاجٍ على رؤوس الجبال، من الأكيد أنّ مبدعاتها كثيرات، تلك الطبيعة الخلابة تهزّ رحمها أطياف "جودت"، كان يكفي أن ألمس ذلك في لطافتهنّ، ورقتهنّ، والجمل القليلة التّي سمعتها بعفويّة، حيث تقدّم وزارة الثقافة السعودية في مشروعها الثقافي هذا، غرف فيرجينية للجنسين، وهو مشروع رائد وتجديد في الحياة الثقافيّة العربيّة ككل. كم أحببت رؤية "جودت" وهي تخرجُ نحو فرصها مثل شكسبير تماماً، أن تترك ذلك العالم الذي هي فيه مجرّد صوتٍ في حيّزِ الثقافة الشفهيّة، وترغم الأنظار على رؤيتها داخل الثقافة الكتابيّة، أن ترفض البدء باللعب من الخسارة: صفر مقابل سبعة.
في العُزلة يُصبح الحوار الصّامت الذي تجريه الرّوح مع نفسها مسموعاً
هل تتساوى العزلة بسلّة المُهملات لضرُورتها داخل محفظة أدوات الكتابة؟
تُغرينا مسألة الذّهاب بعيداً بأنفسنا، الذّهاب باعتباره صعوداً نحو شرفةٍ عالية والمُراقبة من بعيد، الذّهاب باعتباره العودة نحو كلّ شيء، ونتمنى مع كازو ايشيغورو أن نجلس إلى الأبد في صمتٍ، نتأمّل العالم من حولنا، تُغرينا مسألة الذّهاب، سواء بركُوب الطائرات أو القِطارات، أو السّيارات، أو السفّن، أو الذهاب بخيالنا وتفكيرنا حتّى حينما لا نُغادر أمكنتنا، مفتونين بالعُزلة، وإن لم نملك غرفاً تخصّنا لوحدنا اخترعناها، وضعنا سماعات أذننا وحجزنا واحدة بالموسيقى، تغرينا قضيّة أن نرحل نحو الدّاخل، ونحن نُحاول الرّحيل نحو الأشياء، الذّات تلك الماهيّة القادرة على اكتشاف نفسها من خِلال عزلها عن الوِحدة وإلحاقها بالعزلة نحو الآخرين، فالتّفكيرُ من النّاحيةِ الوجوديّة، شأن منعزل وليس وحيداً، والعزلة هي الموقف البشريّ تقول "حنة أرندت" الذي أبقي فيه على صُحبة نفسي، تلك الصُحبة التّي سنرى فيها من جديد ما رأيناه قبلاً أو ما لم نره بعد، الرّؤية والرؤى تحت سقف الغُرف التّي تخصنا وحدنا، ففي كلّ مرة سنحتاجُ إلى "غرفة" تخصّنا لوحدنا. و"الغرفة الفيرجينية" التي قد لا تكون فقط غُرفة من أسوار، بل رمزيّة أن يكون لنا مكان وزمان، حيث نتفرّغ تماماً لما نريدُ الاقتراب منه، نتفرّغ للعيشِ معاً من جديد لكن بالطّريقة الاعتزاليّة التي تغيبُ فيها الأجساد كتجمهُرٍ وتَحْضر كتفكير، كلنّا نريدُ الهرب نحو "كهف أفلاطون"، مُبتعدين عن ظُلمةِ السرداب لكائنٍ تحت الأرض (ومن صُحبة البشر الآخرين) ونتّجه نحو رحابةٍ وضياء شمس التّفكير والتأمّل، صحيح أنّنا وحدنا لكنّنا لسنا وحيدين، إنّنا منسجمون مع ذاتنا الدّاخلية والعالم، وفي هذه العُزلة يُصبح الحوار الصّامت الذي تجريه الرّوح مع نفسها مسموعاً أخيراً. أنت لم تعد "رجل الحشود" عند آلا نبو الذي يخفي شيئاً شريراً في مكنُونه، رجل منزُوع التأمل، وفرامل حياته مُنقطعة، إذ لا يستطيع التوقف للتّفكير، التوقف للتّأمل، ذات معطلّة تربطها حبالُ الأحكام المسبقة. وألا تستطيع التوقف والتفكير هو عمل شرّير، فحينما تصرخُ فيرجينيا وولف طالبةً غُرفة للمرء وحده، فإنّها تودّ منه أن يفكّر، ومن الآخرين أن يساعدوا بعضهُم البعض على هذا، من خلال تسهيل الحصول على تلك المساحات الهامّة، أن يحظى بنفسه من الآخرين، ويحظى بالآخرين من نفسه، أن يقتل الأشياء الخفيّة الشّريرة بفهمها، وهو يُخفّف من سرعةِ فهمه وحكمه، ثم يصُفُّ إلى جانب الوجود، إنّه اتجاهه حقاً، لكن ما نفع أن يصل قبل الوقت أو بدون وقت؟ أن يصل مهدوراً وبلا فرصة للرّحلة، وتجربتي ضمن "معتزلات الكتابة" التي تبنتها وزارة الثقافة السّعودية وخصّتني بدعوةٍ كريمة منها، جعلت الفكرة تُسيطر على كلّ المكان في أبها، أنظر نحو المعتزل ككلّ وكأنّه تلبية ثقافية لهمّ الكاتبة الإنكليزيّة، للذين لديهم الكثير من الأفكار لكنهم مهمومون بآلياتِ العيش، الأفكار العالقة بالأذهان المُنتظرة ذلك الزّمن الذي تتفرّغ لأجلها الأصابع المشغولة على الدوام بالتعلّق بقاطرةِ الوجود فتدوّنها، تقديم غرفة، هو بمثابة تقديم جسر جديد للأفكار، هو فتح الباب الذي كانوا قد أخذوا منها مفاتيحه، وبهذا تتمكن الذّات من استعادة مكانها بالدّخول في التجربة، أخذ المفتاح، الصّعود نحو الغرفة، والذّهاب نحو الآخرين الذين تركتهم خلف بابك.