سحور جماعي وتبادل للأطباق... عن "رَمنَسة" المأساة في غزة
مقاطع بأغنياتٍ تراثيةٍ أو حديثة لرمضان الذي يجمعنا، عن اللّمة، والجَمعة، والعائلة، والضحكات المتبادلة، والأطباق المصوّرة ببطء، بينما يتقاطر العسل الأسود فوقها في كثرةٍ ووفرةٍ، كما تناول إحدى السيدات الأخرى أطباقًا فيها أصناف من الخضراوات، من كلّ شكل ولون، والأنوار تضيء المشهد محاولةً التغطية على الخيام بالخلف، أو إظهارها لكن بصبغة دافئة، ومعان تنزع عنها وحشتها وحقيقتها، في مشهد مزيّف يُرضي من يحبّون راحة الضمير، والمشاهد الاحتفالية الجماعية، ومن يريدون القول إنّ غزّة بخير رغم كلّ ذلك، لكنها ليست بخير على أيّة حال.
تشيع تلك المشاهد في محاولة لـ"أسطرة" الغزيّين، هم القادرون من حيث لا يملكون أيّ شيء، على أن يُوجدوا الأشياء، على أن يخترعوا مياهًا وطعامًا، أن يُوجدوا الكهرباء لا ليضعوها من وحدات غسيل الكلى المتهالكة وغرف العمليات، وإنّما ليضيئوا بها سفرة بين الخيام كأنّها خيمة رمضانية في عاصمة عربية، بعد العاشرة ليلًا، لا ينقصها إلا حضور الفنانين والأرجيلة وأقوام من الناس يرقصون ويتمايلون؛ بينما تنتشر تلك المشاهد انتشارًا فيروسيًّا مبتذلًا، مع تعليقاتٍ تصيبك بالاشمئزاز ورغبة في اعتزال الحياة من فرط الألم والقرف معًا.
هل يضحك الناس في غزّة فعلًا؟ بعد نحو شهرين من الحرب، التقيتُ قدرًا بسيدةٍ من غزّة في داخل مصلحة حكومية للأجانب. لم نكد نسألها عن حالها والاطمئنان على غزّة، حتى داهمها البكاء المرير، بكاء من هذا النوع الذي يعلق بالحلق. لقد نجت من الحرب لكنها لم تنجُ بأيّ شكل. كان البكاء الدقيقُ في لحظةٍ لاحظتها، غير أيّ بكاء آخر؛ بكاء الذين شهدوا مذبحة، وعاشوا إبادة جماعية، ويرون العالم في الخارج كيف يسير كما هو، كيف لم يتوقف، كيف يتابع طحنهم ويمضي.
لا يوجد في غزّة اليوم إلا أحد صوتين، صوت قرقرة البطن جوعًا، أو صرخات الموت قصفًا
يضحك الناس في غزّة ضحكات نادرة، ساخرة، كضحكة الصبيّ الهيستيرية حين لم يجد الطعام، وكضحكةِ محمود زعيتر المكلومة من تحت القصف والفقد والنار، وكضحكةِ المقاتلين الباكية حين يصطادون هدفًا، يعودون بخبره إلى المرابطين في الأنفاق، ولم يشمّوا الهواء منذ خمسة أشهر، وكضحكة الناجي من القصف لوهلةٍ، قبل أن يدرك أنّه الناجي الوحيد من عائلته التي تجاوز الخمسين فردًا.
هل يأكل الناس في غزّة في سحور جماعي على سفرة منمّقة وأطباق بيضاء وأنواع من العسل المصفَّى وأنهار من الماء لذّة للشاربين؟ الناس في غزّة يموتون جوعًا، ولو عُقدت سفرةٌ كهذه فسيتقاسمها ألف إنسان على الأقل، طوابير وصفوف بعضها فوق بعض، ولا يعيبهم ذلك وهم أعزّ أهل الأرض، وإنّما يُعيب حكّام أمّة عاجزة وجيرانًا مستسلمين. وتلك الزجاجات من المياه، المتراصّة بعضها بجوار بعض، كلّ زجاجة تستطيع بلّ ريق عشرين شخصًا على الأقل، لا شخصًا واحدًا، في ذلك المشهد المبتذل.
وأهل غزة، من يُستغلون لإخراج البعض مشاهد كهذه، لصالحِ تلميعِ مساعداتِ دولةٍ ما، أو لأهدافٍ دنيئة، أدنى من أن تطبّق عليها نظرية المؤامرة التي تتعلّق بجمع أموال أو إعجاباتٍ أو شهرةٍ أو التطبيل لحاكم أو نظام ما. أهل غزّة المجتمعون حول أمثال هذه السفَر معذورون، لا يريدون أكثر من اللقمة التي أمامهم حينها، ثم يمضون ليكملوا المجاعة، بعد أخذ فاصلٍ منها، لا يمتد لأكثر من ساعة في مائة وخمسين يومًا، بينما المتاجرون بهم، أصحاب الكاميرات واللقطات المستورَدة، ليس على وجه الأرض أقبح ولا أبشع منهم، بهذه الخسّة منقطعة النظير.
من يريد رؤية رمضان في غزّة فليفتح أقرب قناة تلفزيونية محترمة تقابله، وليفتح أقرب وسيلة تواصل اجتماعي، لتداهمه الصور الحقيقية والفيديوهات غير المزيّفة ولا المقنّعة، بلا معدّلات ولا مؤثرات ولا موسيقى، ولا أغنيات في الخلفية، ولن يجد فيها إلا أحد صوتين، صوت قرقرة البطن جوعًا، أو صرخات الموت قصفًا، وما عدا ذلك، فهي أصوات زائفة.