سبعة أرواح

14 يناير 2024
+ الخط -

 

أرادت قطة دكّان الجزّار أن تعبر الشارع، دهستها شاحنة، فماتت. تحلقنا حولها بدهشة وهي تلفظ أنفاسها. كنت أسمع أن للقطط سبعة أرواح، انتظرت أن تنهض القطة من وسط الشارع لتحيا بروحها الثانية، لكنّ شيئاً من ذلك القبيل لم يحدث. لم تنفعِ القطةَ أقاويل الناس وخرافاتهم السحرية، لقد ماتت من أول مرة.

أخبرت بذلك عجوزاً متسوّلاً حكيما كان يطعم قطط الحيّ المتشردة من غنيمة التسول، قلت له إن للقطة روحاً واحدة فقط، واستدللت أمامه على ذلك بما حدث لقطة الجزّار رغم أنها كانت قطة قوية وسمينة. رفض ادعاءاتي وانحنى ليضع سردينة صغيرة مقلية أمام قطة صغيرة لم تترك لها القطط الكبيرة فرصة للأكل، وهو يقول بصوت واثق: لقطة الجزار سبعة أرواح كباقي القطط، كل ما هنالك هو أنها ماتت ست مرات وعادت إلى الحياة ست مرات قبل أن تصدمها الشاحنة، كانت المرة السابعة هي تلك، تحت عجلات الشاحنة، لذلك لم تنهض.

نهض وعَدّ القطط بصوت مرتفع، مشيراً إلى كل واحدة بسبابته: واحد الله، لا شريك له، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، تسعة.. تسع قطط ضَرْبُ سبع، تساوي.. تساوي.. وأخذ ينظر فوق كأن السماء بدأت تمطر وهو يعد على أصابعه الراعشة كمن يسبّح بعد الصلاة، ثم حين خلص إلى نتيجة قال: تساوي أ سيدي وسيدك رسول الله واحداً وستين، لا، عفواً، ثلاثة وستين، نعم، ثلاثة وستين..

حمل خيشة التسول على ظهره ونظر إليّ باهتمام وقال بصوت عميق قبل أن ينصرف: هل رأيت؟ تبدو تسع قطط فقط، لكنها في حقيقة الأمر ثلاث وستون قطة بالتمام والكمال.. 

ذهب جارّاً حذاءه السميك في قدمه في هيئة صندل، ليتسوّل بعيداً بالأدعية السحرية والأهازيج في الجانب الآخر من الحي. بقيت أحدق في القطط، أعدّها مثله، مشيراً بإصبعي في اتجاه كل قطة، ثم أعود إلى عدها من جديد مراراً حتى أصل إلى الرقم ثلاثة وستين، عادّاً كل واحدة سبع مرات، لكنها ظلت تتحرك فكنت مضطراً كل مرة لإعادة العد من البداية..

حين بلغنا المكان الذي تتخذه القطط المتشردة مسكناً غير قار، أخرج من الخيشة عظام دجاج جافة وأخذ يبسبس للقطط، خرجت بسرعة من الصناديق ومن خلف الركام وتجمعت حولنا تموء

في الليل، حين اضطجعت داخل فراشي لأنام، حاولت إعادة عدها في خيالي: واحد الله، لا شريك له، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، تسعة، عشرة، أحد عشر، مشيراً بسبابتي في اتجاه السقف كمن يحتضر.. حين بلغت العدد: خمسة وثلاثين، توقفت، اكتشفت أن هناك خطأ لم ينتبه إليه المتسول، إذ إننا لا نعرف كم مرة ماتت تلك القطط، وكم روحاً ما زال بإمكانها الحياة بها، إذن لن نستطيع أبداً أن نعرف عددها الحقيقي. قررت أن أكمن للمتسول في الغد لأسأله.

كنت ألعب بدق حجر على الطوار حين سمعت صوته قادما من بعيد في هدوء الصباح يستعطف المارة والناسَ في بيوتهم بالأدعية والأغاني والأهازيج العتيقة ليعطوه مالاً وأكلاً له وللقطط وأقمشة قديمة. ركضت في اتجاهه، أخبرته بخطئه في العد، وباستحالة عد القطط عداً صحيحاً. وقف حائراً لحظة ثم قال: معك حق، أنت ولد شاطر، لكن، رغم ذلك يمكننا عد القطط. نظرت إليه باستفهام شديد فأجاب قبل أن أسأل: الأمر سهل، سهل للغاية، نقتل كل قطة لنرى كم مرة ستموت وكم مرة ستحيا، تعال معي..

ترك التسول واتجه بتحفز صامتاً صوب المزبلة التي في نهاية التّرعة، بقيت جامداً مكاني فاغراً فمي ما يقارب دقيقة قبل أن أتبعه راكضاً كقط. 

حين بلغنا المكان الذي تتخذه القطط المتشردة مسكناً غير قار، أخرج من الخيشة عظام دجاج جافة وأخذ يبسبس للقطط، خرجت بسرعة من الصناديق ومن خلف الركام وتجمعت حولنا تموء وتحتكك بعضها ببعض وبالخيشة وبنا، ألقى لها عظام الدجاج، بعد أن بللها بسائل صبه فوقها من قنينة، أعاد القنينة إلى قب جلبابه بحذر شديد وقال: لقد وضعت لها بعض السم في العظام، لنعدّها، اجلس وعُدّ معي..

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.