روايات نجيب محفوظ.. رسم الشخصية المصرية بدقة

11 ديسمبر 2022
+ الخط -

عالَم نجيب محفوظ أو العم نجيب، كما أحب أن أسميه، عالَم جميل ورائع لمنْ يخوض فيه.

أنا أول تعرفي على العم نجيب، كما أتذكّر، كان عند قراءتي رواية (زقاق المدق) في سنوات الثانوية تقريباً.

رواية جميلة وأنت ترافق عباس الحلو؛ ذلك العاشق الولهان للبنت اللعوبة والمتطلعة حميدة؛ التي تضيق من حارتها القذرة، بحسب تصورها، فتنتهي مغامراتها في أحضان الإنكليز، فيدفع عاشقها عباس حياته ثمناً لولهه بها.

تخوض بك الرواية في عمق الحارة المصرية؛ فتقابلك نماذج مصرية بسيطة تحفل بها الحارات المصرية دائماً، أشخاص غير الأبطال الخرافيين ولا السياسيين المموهين، بل أناس ستجد مثلهم في أغلب الحارات ليس المصرية فقط، بل والحارات العربية الضيقة!

ثيمة الحارة حاضرة أمام كل كاتب قصة، لكنها ازدهرت تحت أنامل العم نجيب، لأنه ابن الحارة المصرية أصلاً؛ فقد ولد وعاش في حارة الجمالية بالقاهرة ثم انتقل إلى حارة العباسية. 

بعد تلك الرواية انجذبتُ إلى عالَم العم نجيب، فرُحتُ أبحث عن رواياته المتوفرة مع الأصدقاء أو في المكتبات العامة (قبل ظهور النت والـpdf)، فقرأتُ (كفاح طيبة) التي تعد واحدة من ثلاث روايات تاريخية له، وهي (عبث الأقدار) و(رادوبيس) و(كفاح طيبة)، لكني لم أجد فيها العم نجيب كما وجدته في الحارة المصرية.

بالمناسبة، لقد أضاف العم نجيب رواية تاريخية رابعة، بعد مرحلة طويلة من كتابة الروايات الاجتماعية، هي رواية (العائش في الحقيقة) الصادرة في منتصف الثمانينيات، وتدور أحداثها حول الفرعون أخناتون، الذي دعا لتوحيد الإله وليس تعدد الآلهة الذي كان سائداً في عصره، وما رافق تلك الدعوة من معارضات، وقد كتب العم نجيب الرواية بطريقة استدعاء التاريخ من خلال استجواب شهوده، بدلاً من السرد التاريخي المعتاد.

ثم قرأتُ بعد ذلك (ملحمة الحرافيش)، الذي لفتَ نظري إليها مسلسل (السيرة العاشورية) عندما عرضته إحدى قنواتنا الفضائية، إذ وجدت الرواية في المكتبة العامة في إب، فالتهمتُها في يوم واحد، حيث يعرض العم نجيب فيها عشرة أجيال لأسرة عاشور الناجي، من عاشور الجد وحتى عاشور الحفيد العاشر!   

ثم تتابعت قراءاتي للعم نجيب، وملتُ بشدة نحو مجاميعه القصصية؛ التي أستطيع أن أقول إني قرأتها جميعاً (عددها 19 مجموعة)، لأنها جمعت بين القِصَر وتعدد النماذج البشرية التي يعرضها العم نجيب في كل قصة قصيرة

هي رواية أجيال سبقها بثلاثيته الشهيرة (بين القصرين) و(قصر الشوق) و(السكرية)، أو ما يسمى بـ"ثلاثية القاهرة" التي كتبها في منتصف الخمسينيات، ولعلها القمة التي بلغها العم نجيب في توظيف ثيمة الحارة التي تفرد بها، تلك الحارة التي سكنت وجدانه، وأسمعه يقول: "منذ مولدي في حي الحسين، وتحديداً في يوم الاثنين 11 ديسمبر عام 1911م، وهذا المكان يسكن في وجداني. عندما أسير فيه أشعر بنشوة غريبة جداً، أشبه بنشوة العشاق، كنت أشعر دائماً بالحنين إليه لدرجة الألم. والحقيقة أن ألم الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحي".

ثم تتابعت قراءاتي للعم نجيب، وملتُ بشدة نحو مجاميعه القصصية؛ التي أستطيع أن أقول إني قرأتها جميعاً (عددها 19 مجموعة)، لأنها جمعت بين القِصَر وتعدد النماذج البشرية التي يعرضها العم نجيب في كل قصة قصيرة.

ما كوّنته من فكرة عن الإبداع القصصي عند العم نجيب أنه نجح في رسم الشخصية المصرية بكفاءة منقطعة النظير، كما نقل الحارة المصرية من الواقع إلى الورق مجسدة، كأن شخوصها (تتنطط) أمامك على أوراق الرواية أو القصة القصيرة!

وتعتبر رواياته سجلاً لتاريخ مصر الحديث في الفترات التي مرت بها مصر، من عصر البشوات وثورة 1919م، وحتى الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات، مروراً بثورة يوليو 1952م ونكسة 1967م وغيرها من الأحداث، لكنه ليس مجرد سجل تاريخ سياسي، بل تاريخ اجتماعي مجسّد في شخوص تتحرك وتتفاعل مع كل تلك التغيرات.

كذلك ابتكاره لتقنيات مختلفة في التعامل مع ثيمته الخالدة الحارة المصرية؛ فتارة يسرد القصة بتتابع زمني كما (ملحمة الحرافيش) أو (زقاق المدق) أو غيرها، ومرة يفكك الشخوص بحيث يعرض لكل شخصية على حدة، كما فعل هذا في رواية (المرايا) أو (ميرامار) أو (أحاديث الصباح والمساء)، على الرغم من أنها طريقة تربك القارئ نوعاً ما، لأنه لا يكاد يربط بين الشخصيات المتناثرة، لكنها تطابق طريقة تعرفنا للبشر في حياتنا اليومية، أو يذهب إلى الفانتازيا كما فعل في بعض قصصه القصيرة مثل قصة (السماء السابعة) في مجموعة (الحب فوق هضبة الهرم)، أو يلبس الحلم ليعرض فكرته كما في عمله الأخير (أحلام فترة النقاهة).

ولا ننسى أيضاً أن العم نجيب كاتب يستخدم الرمز بامتياز؛ يلبسه قناعاً ليشرّح المجتمع من حوله؛ ولعل روايته المثيرة للجدل (أولاد حارتنا) أنصع مثال لما أقول. 

الخلود لك يا محفوظ.

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري

مدونات أخرى