رمضان زمان
"اصحى يا نايم وحد الدايم.. وقول نويت بكرا إن حييت الشهر صايم والفجر قايم ".. بهذه الكلمات المأخوذة من الأغنية ذائعة الصيت للراحل سيد مكاوي، كان صوت المسحراتي يجوب الأحياء، آنذاك كان منبهنا الوحيد حين كنا ننام فعلاً ونستيقظ للسحور، قبل أن يصبح رمضان شهر السهر والسمر، فلا ننام حتى مطلع الفجر.
الأمهات ينهرن الأولاد الكسالى للاستيقاظ، مُطلقات تهديداً مفاده : "إلي ما بتسحر ما في يصوم"، فيستيقظ أحدنا بنصف عين، واللقمة تدخل في عيننا بعد أن أضلت طريق الفم بسبب النعاس الشديد، ثمة لقمة أخرى ظلت عالقة في الصحن بعد أن نام صاحبها وهو جالس، الأب يناديه بعصبية مفرطة: "يا بتقوم تتسحر زي البشر يا روح نام وخلينا نعرف نتسحر، إيدك مسكرة الطريق"، لكننا كنا نصر على إكمال السحور، فقرار الصيام مرتهن بالسحور من عدمه: إذا تسحرنا صمنا، وإذا لم يوقظونا فليس علينا أكثر من صيام العصافير، أي حتى صلاة الظهر.
كان السحور أكثر أُلفة.
رائحة الطبيخ التي كنا نشمها عن بعد ألف خطوة، فنعرف ماذا طبخت كل جارة، قبل أن يصلنا صحنها الذي يأتي موافقاً لحاسة شمنا، البيوت التي كانت متلاصقة في حدودها وفي وحدة حالها، الأم تتحايل على صغيرها الذي وصلت شفتاه إلى الأرض من العطش: "يمه عادي لو تمضمضت وبلعت شوية مي"، الأب النزق يتمدد في ساحة البيت مثل مصابي الحرب، مرة ينظر إلى الساعة، ومرة يطالع علبة السجائر، وبعد كل خمس دقائق يسأل زوجته "أي هو مطول الأكل؟"، والزوجة تنفخ من الغيظ وترد: "يا رجل شو بدك بالأكل؟ ضايل على الآذان ثلاث ساعات"
الزوج: "وليش بتنفخي وانتي بتحكي معي؟
الزوجة: بنفخ ع الطبخة مش عليك"
الزوج: "طيب استعجلي شوي"
الزوجة: "كيف أستعجل يعني؟ أروح أرفع الآذان أنا؟"
مناوشة فظة ومتكررة يقطعها صوت أحد الأبناء سائلاً أمه: يمه نسيت إني صايم وأكلت حبة حلو.. عادي؟" .. الأم: "عادي حبيبي هذا سهو كمل صيامك" .. يأتي صوت الأب من جديد: "يا ريت نرجع أطفال نسهى مثلكم وندخن سيجارة". كانت البيوت أقل تعقيداً.
حانت ساعة الصفر، صوت مئذنة الجامع بدأ بالخشخشة، وقد كانت تلك الخشخشة الوسيلة الوحيدة التي نعرف من خلالها متى نتجهز للأفطار أو الإمساك
على الطرف المقابل كان أبو زهدي، الرجل السبعيني ينهر الأطفال الذين تركوا الكرة الأرضية واختاروا اللعب على باب دكانته: "يا عمي إنت وياه والله فتحتوا براسي أوتستراد، ما عندكم أهل يضبوكم؟ روحوا العبوا بعيد وخلوني أكمل صيامي بلاش أفطر عليكم؟"
تطل أم أحد الأطفال برأسها من الشباك وتوجه حديثها لأبي زهدي: "يا رجل خلي الأطفال يلعبوا .. إنت صايم لربنا ولا إلهم؟
أبو زهدي: "خليهم يلعبوا بساحة دارك، نازلين تخلفوا وترموا بالشارع، قال وبسألوا ليش الجيل ضايع؟ ، لأنه الآباء طاشين ع راسهم، والأمهات بحضرن مسلسلات، اللهم إني صائم بس".
تتمتم الأم بكلمات لم يفهمها أبو زهدي، لكن رائحة الشتيمة تفوح منها، ثم تردد هي الأخرى: "اللهم إني صائم"، وتغلق الشباك بعنف.
فيما يجلس أبو ناوي على عتبة بيته ممسكاً مسبحته بيده، وكلما مر أحدهم وطرح السلام عليه رد قائلاً: "جيرة الله نكسبك ع الفطور"، رغم أن بيننا وبين الفطور ساعات، ورغم أن عزومة واحدة ستكسر راتب أبو ناوي التقاعدي حتى آخر الشهر.
كانت الأحياء أكثر بساطة.
في السوق الشعبي كان صوت الباعة يشبه المبارزة بالسيوف، مؤمنين بأنه كلما علا صوتك زاد بيعك: "هي التمر الهندي، اشرب كاسة الآن، ما بتعطش لآخر رمضان" .. "كيلو البندورة بربع دينار، قرب يا شب، تعالي يا ست البيت، ميل يا ختيار" .. "تعال وشوف القطايف، حبة منه بتخلي الأعمى شايف"..
مشاجرات بالجملة بين الباعة والزبائن وبين الباعة أنفسهم نتيجة عمليات (حرق الأسعار) التي تزداد كلما اقترب موعد أذان المغرب، شتائم لا حصر لها، ونسبة المتفرجين أكثر من نسبة المشترين، فحضور المشاجرات على الهواء مباشرة أكثر متعة من حضورها في مسلسلات اليوم، كما أن حضورها يبدد ساعات الصوم المتبقية!
كانت الأسواق أكثر حياة.
حانت ساعة الصفر، صوت مئذنة الجامع بدأ بالخشخشة، وقد كانت تلك الخشخشة الوسيلة الوحيدة التي نعرف من خلالها متى نتجهز للإفطار أو الإمساك، وغالباً ما كانت كل أسرة تنتدب أحد أفرادها طوال الشهر الفضيل ليطل برأسه من الشباك كلما اقترب موعد أذان المغرب، ثم يعطيهم الإيعاز اللازم: "يلا هي أذن"!
الأم تسكب الطعام بخفة وحب، وعبارة "الله يعطيكِ العافية" تصبح (الترند) على مائدة الإفطار، الأب الذي كان قبل ساعات يقاتل الهواء من فرط العصبية يشعل سيجارته بعد أن أجهز على نصف الأطباق والعصائر، ويؤكد بهدوء منقطع النظير: "الحمد لله رمضان السنة لا جوع ولا عطش"، أبو زهدي يراجع نفسه بعد أن أفطر وتناول أدويته: "الله يخزيك يا شيطان، أطفال صغار بلعبوا شو بدي فيهم"، وتلك التي أطلت برأسها من الشباك يؤنبها ضميرها هي الأخرى: "زلمة قد أبوي ليش هيك عملت أنا؟ هسه بس يفتح الدكان بدي أروح أعتذرله"، الأسواق في حالة هدنة الآن، بينما يعود أبو ناوي للجلوس على عتبة البيت لرد السلام على المارة مغيراً قواعد الاشتباك معهم هذه المرة: "جيرة الله ع السحور"!
كانت النفوس أكثر استشعاراً بقيمة رمضان.