فضّ الاعتصامات في الأردن.. حتى حين!
حتى حين، نجحت السلطات الأردنية في "لمّ الطابق"، ووأد الإضرابات التي نفذها سائقو الشاحنات، ثم انضمّ إليها أصحاب سيارات أجرة وحافلات عمومية، وامتدت الإضرابات لتشمل عدداً من المحال التجارية التي أغلقت أبوابها تضامناً مع احتجاج سائقي الشاحنات في محافظات مثل معان والكرك ومأدبا جنوب العاصمة عمّان، وكان مردّ هذه الاحتجاجات رفع أسعار المحروقات بنسبة تراوح بين 40 - 46%، إذ وصل سعر لتر الديزل إلى 895 فلساً (1.26 دولار) خلال ديسمبر/ كانون الأول الحالي، مقارنة بـ 615 فلساً (0.87 دولار) خلال الشهر ذاته من عام 2021.
حتى حين، لأن هذه الاحتجاجات ستظل تطفو على السطح ما دامت الكلمة العليا للنهج الجبائي وسياسة رفع الأسعار واللجوء إلى جيوب المواطنين لسد العجز. فبينما أعلنت الحكومة بوضوح أنه لا تخفيض لأسعار المشتقات النفطية تحت أي ظرف، وأنها لا تملك ترف "دعم المحروقات"، ما زلنا نرى مظاهر الترف في قصور المسؤولين الشاهقة، وفي رواتب موظفي الهيئات المستقلة التي لا داع لوجودها سوى التنفيع، فضلاً عن رواتب المستشارين الذين لا يُستشارون والسيارات الحكومية الفارهة، وكل ذلك وسط ارتفاع الدين العام الأردني إلى ( 51.5 مليار دولار) خلال الربع الأخير من السنة الحالية.
حتى حين، لأن المشكلة أبعد بكثير من رفع أسعار المحروقات. أنت تتحدث عن أزمة ثقة بلغت أقصاها بين الأردنيين ومؤسسات دولتهم وجميع المسؤولين دون استثناء، حتى وصل الأمر إلى التشكيك ببيانات تصدر عن الأجهزة الأمنية. ففيما كان أجمل ما يميز الأردن تلك الحالة الوجدانية بين المواطنين والعسكر (لا يكاد يخلو بيت أردني من منتسب أو منتسبة إلى الجيش والأجهزة الأمنية)، شاهدنا نسبة تشكيك لافتة بالرواية الأمنية حول استشهاد أربعة من عناصر الأمن العام في الأحداث الأخيرة على يد أحد حملة "الفكر التكفيري"، وفقاً لبيان الأمن العام، وكانت أزمة الثقة هذه انعكاساً لعقود من التصريحات الرسمية التي طمأنت الناس إلى أن الأمور ستتحسن، لكن "التحسن" الوحيد كان في ارتفاع نسب البطالة، واتساع رقعة الفقر، والتمادي في الاعتقالات لكل من يغرد على عكس ما تطلبه السلطة!
فُضت الاعتصامات حتى حين وستعود من جديد، لأن المسكنات لا تعالج الأمراض بل تخفف وطأتها فترة قصيرة، والأمراض التي يعاني منها الأردن تُعالج بالمكسنات وشراء الوقت
فُضّت الاعتصامات حتى حين، وستعود من جديد، لأن المسكنات لا تعالج الأمراض، بل تخفف وطأتها فترة قصيرة، والأمراض التي يعاني منها الأردن تُعالج بالمسكنات وشراء الوقت، وبتشكيل اللجان التي لا تُسمن ولا تغني من جوع، وبالإصرار على تعيين ذات الوجوه التي عفا عليها الزمن، وتجاوزها التاريخ، وكُبر عليها أربعاً، ولأن الحكومات والمجالس النيابية الأردنية أشبه ما تكون بجملة معترضة لا يؤثر حذفها أو وجودها في السياق، فقد اجتُثت صلاحياتها وما لها من قرار. والمأساة أن نسبة كبيرة من الناس ما زالت تطالب بإسقاط الحكومة بدلاً من تغيير النهج الذي تدار به البلاد، ما يُذكرني بمقابلة أجرتها جريدة "الأخبار" اللبنانية مع الرمز الوطني ليث شبيلات، الذي غادرنا إلى دار الحق قبل أيام. فردّاً على سؤال عن رأيه بعبارة قالها رئيس الوزراء الأسبق هاني الملقي، الذي سقطت حكومته إثر احتجاجات شعبية عام 2018، أجاب شبيلات: "هل عندنا في الأردن رئيس وزراء؟! ليس هناك رئيس وزراء في الأردن، ولا حتى مجلس وزراء، ما هو موجود مجلس نُظّار مثل الذي كان موجوداً وقت تأسيس الإمارة في عام 1921، وهو مجلس مستشارين لا يرقون إلى مستوى وزير. فهذا الأخير صاحب سلطة سيادية ومسؤولية جماعية مع زملائه. أما الذي ينفذ فقط شؤون وزارته، فهو مدير يطيع مسؤولاً أكبر منه، وها نحن نعود بعد سنوات بعد أن تقدمنا بحكومات وطنية مثل حكومة وصفي التل صاحب الإرادة المستقلة كشخص، عدنا إلى حكومات تافهة لا أحفظ حتى أسماء 80% من وزرائها. سُئلت مرة عام 1986 عن سبب بروزي، فأجبت: لقد فسد الزمان إلى أن بات ما أفعله يعتبر بطولة، بينما كان آباؤنا يعتبرون تركه نذالة".