رسالة اعتذار إلى نساء لا أعرفهن
بدأت القصة في يونيو/ حزيران عام 2016، كنت طالب علم اجتماع متحمّسًا في سنته الدراسية الأولى، بحثت بشغف كبير عن أيّ مساق في برنامج "دراسات المرأة"، وكأيّ ذكر يدّعي أنّه تخلّص من رواسبه الذكورية، جلست في المقعد الأول منتظرا المعركة التي سأستعرض فيها كلّ ما أملك في جعبتي من عداء لذكورية هذا "المجتمع اللعين"، كما كانت مدرسة المساق تحب أنّ تسميه.
بالرغم من معرفتي القليلة عن "النسوية" وسياقها حينها، لم يلب ذاك المساق تطلعاتي. لم أشعر أنّ قراءة عالم الاجتماع، حليم بركات، ستكون أهم ما يمكن أنّ يعرض عن واقع المرأة العربية والفلسطينية في هذه المرحلة، ولم أشعر أنّ حماس معلمتي يقلّ عن حماس أيّ رجل ذكوري يريد أنّ يغيّر العالم بعضلاته (وبالمناسبة كانت هذه العبارة بالضبط هي السبب في طردي من المساق للمرة الأولى).
توالت المحاضرات، ومعها توالت النقاشات التي صارت أكثر حدّة بيني وبين المعلمة التي أصبحت تتجاهل وجودي تماما، صرت أقرأ نصوصاً أخرى غير تلك المطروحة في المساق، تعرّفت وقتها إلى بيل هوكس، نسوية الهامش كما كان يسميها أحد الباحثين الأميركيين، وكانت تلك الأخيرة السبب الأساسي في طردي للمرة الثانية من المساق حين اقتبستها لأتهم المدرسة مرّة أخرى أنها تُملي ما تريده على فئة كاملة من النساء اللواتي لا تعرف شيئًا عن معاناتهن أو حياتهن اليومية، وطبعًا استطردت في اتهامي هذا، وقلت لها إنها تعيش في فقاعة بعيدة تمامًا عن تلك التي تعيش النساء التي تتحدث عنهن فيها.
تقول هوكس، في إحدى أوراقها البحثية (مع) نساء من الهامش، إنّها اكتشفت أنّ بعض النساء يمارسن أنماط حياة نسوية وينتزعن حقوقهن البسيطة دون أنّ يعلمن حتى ماذا تعنية كلمة "نسوية" من معنى. مع ذلك، تضيف هوكس، أنّ التنظيرات النسوية في معظمها دائمًا ما كانت تميل إلى الاعتقاد بأنها تعرف مصلحة النساء أكثر منهن أنفسهن، وتطالبهن بنمط حياة "نسوي" ذي ملامح معينة ومرسومة مسبقًا، متجاهلةً الصعوبات والاختلافات الكبيرة في سياق تلك النساء.
هنا تمامًا قررت أنّ أبدأ مسيرة طويلة في قراءة نصوص هوكس، ومع كلّ نص جديد صرت أشعر بأنني "مدين بالاعتذار إلى نساء لا أعرفهن".
ما قالته إحدى زميلاتي في المساق عن قدرتها على التفاوض مع عائلتها من أجل الالتحاق بجامعة بيرزيت كان بمثابة خلاصة لم تستطع كلّ قراءات المساق أنّ تطلعني عليها
أكتب هذه التدوينة معترفًا بأنّ تجاهل مدرسة المساق لي حينها كان درساً تعلمت منه مهارة الاستماع، وهو درس لم تكن مدرسة المساق نفسها قادرة على تعلّمه، لأنني أدركت وقتها أنّ ما قالته إحدى زميلاتي في المساق عن قدرتها على التفاوض مع عائلتها من أجل الالتحاق بجامعة بيرزيت كان بمثابة خلاصة لم تستطع كلّ قراءات المساق أنّ تطلعني عليها.
أكتب هذه التدوينة اليوم معتذرا إلى نساء لا أعرفهن، اعتقدت يومًا أنهن بحاجة إلى نصيحة باحث أو كاتب أو نص ما أو مدرسة مساق.
أكتب اليوم إلى نساء لا يعرفن مفهوم "النسوية" لكنهن يعرفن دون أدنى شك أنّ يواجهن هذا الواقع أكثر من كل تلك النظريات والقراءات والكتب التي قرأتها يومًا.
أكتب اليوم إلى صديقة غضبت مني لأنني قدمت نصيحتي لها قبل أنّ تكمل حديثها حتى.
أكتب اليوم إلى أمي، التي كنت أرغب بشدّة أنّ تكون أساس هذه التدوينة لو أنّ الوقت أسعفني في التعرّف إليها جيدًا قبل موتها.
هذه رسالة اعتذار عن أشياء كثيرة.