رجل هادئ.. في داخله ثورات وبراكين وانفجارات
أنا رجل بسيط أمشي جنب الحائط، وأكثر ما أحبّه هو الهدوء وراحة البال. أحبّ مثلاً، أن أنام وحدي على سرير كبير، أن أحيط بي أكواباً، وقناني فارغة، وكؤوساً، وعلب "ياغورث"، وقنينة عطر باهظ، وألبوم العائلة من القرن الماضي.
أحبّ أيضاً، أن أقصّ صوراً لفلاسفة عدميين، وشعراء انتحروا، وباعة لبن جوّالين بعربات الألمنيوم، وقرويات بالخمار والحلي والأوشام، وأن ألصقها على الحائط.
كما أحبّ، أن أسقي النباتات بآنية الفخار، وأن أترك النوافذ مفتوحة كالأحضان طيلة الليل. قصص الحب القديمة نسيتها. أصفّف مسكنات ألم الأضراس بأنواعها، وأشكالها الكثيرة، قرب كتب التنجيم والطبخ والروايات المترجمة. لا أحبّ أن أطوي ثيابي، ولا أن أجيب عن الأسئلة المباشرة، ولا أن أحضر استعراضاً للجيش في وسط عاصمة ما، ولا أن أمشي وسط حشد في مظاهرة. أغلق بابي وأطلّ من ثقبه أن لا أحد خلفه. أكتب فقط بالكلمات التي هرّبتها معي داخل حقيبتي، ولم تشمها كلاب المطارات. أشرب الحليب في كأس البيرة والشاي في كأس الشمبانيا والقهوة في كأس التكيلا.
كلّما زرت محلاً تجارياً أشتري جوارب جديدة، فأنا مهووس بألوان الجوارب وأحجامها وأشكالها. لا أشاهد الأخبار، ولا أتصفّح الجرائد، ولا أملك قلماً خاصاً، ولا كرّاسة مواعيد، ولا مسوّدة أشعار. أفضّل الخضراوات على السياسة، والآيس كريم على علم التاريخ، وتأمّل مشية عارضات الأزياء على تأمّل الزمن. عاداتي رتيبة للغاية، كأن أقصد مقهى قريباً كلّ مساء، أو أن أهاتف أمي، أو أن أعيد مشاهدة سلسلة كاملة من الرسوم المتحرّكة.
الشعراء يحبّون وحدتهم أكثر من أيّ شيء أو شخص آخر، وعبر تلك الوحدة يحنون بعمق إلى الجميع، فيكتبون قصائد جميلة
الزواج جميل، لكن من الأفضل أن ينام كلّ واحد في سريره، وفي غرفته، خصوصاً في الصيف. بعد القبل والعناق والحبّ، وكلّ تلك الأشياء الأخرى اللذيذة، أحتاج هدنة، أحتاج أن أظلّ وحدي لأكتب قصيدة تراجيدية، أو لأشاهد فيلماً كوميدياً، أو لأقرأ "الإلياذة" مرتلة، أو لأتأمل أظافر رجلي اليسرى دون أن يكون هناك شخص يتأملها معي، أو أن يستغرب.
الشعراء يحبّون وحدتهم أكثر من أيّ شيء أو شخص آخر، وعبر تلك الوحدة يحنون بعمق إلى الجميع، فيكتبون قصائد جميلة. من أجل ذلك، وإلى حدّ الآن، لم أربّ كلباً، ولا قطاً، ولا سلحفاة، ولم أنتم إلى حزب. نظراتي مبهمة ومريبة وفلتانة، إن جلست قبالتي لن تعرف أبداً إلى أين أنظر، ولا فيما أفكّر، ولا بما أنا مشغول، أنا نفسي لا أعرف. كلّ ما أستطيع قوله بصدد ذلك، هو أنّها نظرات طفل سُرِقت منه ألعابه، طفل بلا شر، لكن أيضاً بلا براءة. تقريباً، لا أعرف شيئاً عن أيّ شيء، باستثناء أنّي مفتون بالطبيعة، الأشجار والأزهار الصغيرة جداً والنباتات العشوائية التي لا تصلح أكلاً، ولا دواءً، ولا علفاً للبهائم، والجبال، والسهول، ورائحة روث الأبقار والخيول والبحر والغيوم.. خصوصاً الغيوم، أحبّها ولا أعرف لماذا أحبّها.
وعوض أن أحدّق في المباني، والسيارات، والمارة، والهندسيات الحديثة تهرب نظراتي لتحدّق في الغيوم. أحبّ الشتاء أيضاً، سوى أنّي بتّ أحبّ الصيف أكثر، الصيف الغائم خصوصاً، الصيف المرعد. أنتظر بشغف كبير أن تغيم السماء صيفاً، وأن ترعد وتبرق، أنتظر ذلك أكثر مما أنتظر أن يتغيّر العالم، أنتظر ذلك أكثر مما أنتظر المهدي المنتظر، أنتظر ذلك أكثر مما أنتظر غودو، أنتظر فقط أن يحدث ذلك، أن تمطر صيفاً، يا لها من غبطة، يا له من حبور، يا له من فرح، أن تستحم عارياً بأمطار دافئة قادمة من عيون الله..
أن تمطر صيفاً، يا لها من غبطة، يا له من حبور، يا له من فرح، أن تستحم عارياً بأمطار دافئة قادمة من عيون الله..
أنا رجل بسيط وهادئ ومسالم، أمشي جنب الحائط، أخاف من ظلّي، ولا أحرك دجاجة عن بيضها ولا بيضا عن دجاجته... سوى أنّي، رغم ذلك، حين أجلس لأكتب، تغلي داخلي براكين وزلازل وتتقد نيران عملاقة وتتأجج ثورات وتمرّدات وانقلابات. رصاص كثير، وقناصة، وقتلة متسلسلون، وقطاع طرق، وقراصنة، وخارجون عن القانون. حروب همجية، ومذابح، ومسالخ، ومقابر جماعية للتصفيات العرقية، وساحات إعدام، وسكك حديد مهجورة، تصل حتى تجمّد القارات. وفوق كلّ ذلك، ثمّة عصفور وحيد صغير جداً، ملوّن ومهاجر، يطير فوق أدخنة وسخام القارات ويغنّي، ولا تتلطخ ريشاته، يطير فوق الحرب، فوق التلف والهلاك، فوق الإبادة، فوق الطاعون والملاريا والسرطان، فوق القيامة، وينجو...