رائحة الكراهية
رائحة الكراهية تفوح في كلّ مكان. هنا، في "الشرق الأوسط" كما يسمينا بعض الغرب ونقلّدهم، أو هناك، عندهم، وفي كلّ مكان هذه الأيام.
رائحة الكراهية تفوح من نشرات الأخبار بكلّ أنواعها، العاجلة أو البائتة، وبكلّ اللغات، العربية، العبرية، الفرنسية والإنكليزية، وحتى الإيطالية والإسبانية. كراهية مشروعة، كراهية من دون سبب، تفوح تلك الرائحة دون تفرقة من شاشات التلفزيون، مواقع التواصل غير الاجتماعي، وبالطبع من رسائل الواتساب. هي تكاد تفوح حتى من صورة خريطة المنطقة.
تزكم تلك الرائحة كلّ الأنوف، تتسلّل من الأفواه والكلمات إلى الأرواح، تتغلغل، لطول مكوثها، في سلاسل الحمض النووي للكائنات.
لو كانت لهذه الرائحة قدرة على التلوّن بلونٍ ما، لكانت كلّ المنطقة قد اصطبغت به. منطقة بلون "مونوكروم"، لون البغض. أهناك لون للكراهية؟ أهو أخضر مزرق كالعفن؟ أو معكّر بين الزيتي والبني كلون مياه المستنقع الراكدة؟ ليس غريباً أن يُقال "مستنقع الكراهية". فمكوث الظلم في مكان ما لفترة طويلة دون أن يحرّك أحد ساكناً، سيؤدي بالطبع، بالتطوّر البيولوجي، إلى تحوّله مستنقعاً للكراهية. اللغة بليغة.
أتابع الأخبار برغم الرائحة الكريهة التي تفوح من أفواه مذيعي المحطات، تلك الغربية خاصة. يحاول الباحث الضيف في النشرة الفرنسية أن يستعرض ظروف الفلسطينيين في غزة، مورداً بضع معلومات عن مدخول الفرد، ودرجة الفقر هناك. يقاطعه المذيع بغضب قائلاً له: "إنّ الفقر ليس مبرّراً للإرهاب!".
الكراهية تُزرع زرعاً، بذرة تُبذر ثم تُروى. هي ليست كالأعشاب البرية التي تنبت من تلقائها، وليست بحاجة إلا لمطر السماء وشمسها
تخيف الكلمة الباحث المسالم، فيُتأتئ محاولاً إكمال كلامه، لكن المذيع المتحمّس، والذي صادر مكان الضيف في التعليق، يعود للكلام وكأنّه يفكر بصوت عال: "حسنا إذاً، إن كانوا فقراء، مؤكد بينهم الكثير من المخبرين لإسرائيل وسيساعدونها في تحديد مكان الأسرى"! يا لهذا الإخلاص! يا للمهنية! يا للإحساس بالعدل!
كيف أحمي قلبي من الكراهية؟
هذه الفرحة التي أحسست بها لدى نجاح الغزاويين بطوفانهم المدهش، خلصتني بعض الشيء من كراهية تراكمت في داخلي وسمّمته. حسناً لديّ كلّ الحق، فأنا أنتمي لهذا الشعب المظلوم تاريخياً، المطعون في ظهره، وفي صدره، وفي كلّ أطرافه. لكن، لِم يكره الجلاد ضحيته البريئة؟ ما الذي فعله الفلسطينيون ليستحقوا معاملتهم بكلّ هذا الكره المرضي؟ لو كان كرهاً موجّهاً للألمان أو الفرنسيين أو الإيطاليين والإسبان الذين حملوا اليهود في قطاراتهم إلى المحرقة، لتفهمت. لكن كيف بإمكانهم أن يكرهوا الفلسطينيين الأبرياء بدلاً عنهم؟ أنا عاجزة عن فهم هذا التغوّل!
لذا، صحيح. فرحت بشدّة لانتقام الفلسطينيين، ولقدرتهم على اجتراح نصر في سلسلة هزائم الأمة. لكن في الحروب، الفرح ليس صافياً، هو فرح يختلط فيه غضب الإنسان لاضطراره للعنف دفاعاً عن نفسه، بالحزن على هذا العالم الأشبه بالغابة، هذا العالم العابق بالكراهية، بذلك الغضب البائت، البارد، السميك، المتراكم لوقت طويل، حتى أصبح جلداً كئيباً للروح.
مديدة هي الكراهية، أمّا فرح الانتقام؟ هنيهة، برهة، ساعة أو ساعات ربّما، يليها ذلك الحزن، لنجاح العدو بجعلنا نكره لدرجة الفرح بالقتل، ولو كان مشروعاً ألف مرّة بالدفاع عن النفس.
أبعد عينيَّ عن صور القتلى، عيون الأسرى المرعوبين بوقوعهم في صورة اعتاد ضحاياهم أن يسكنوها. هم ليسوا أسرى عاديين، أبرياء، ضحايا، هم مجرمون بطبقات عدّة، بانتكاسات متكرّرة دون عقاب... لا بل، ربما، بتربيتةٍ على الكتف.
لماذا يكرهوننا؟ تساءل الأميركيون بصفاقة بعد هجوم الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر الشهير. أفراد الهجوم كانوا سعوديين بأغلبهم، لكن الأميركيين انتقموا من العراق! يكاد المستوطنون يتساءلون عبر الشاشات السؤال ذاته وبالصفاقة نفسها.
مكوث الظلم في مكان ما لفترة طويلة دون أن يحرّك أحد ساكناً، سيؤدي بالطبع، بالتطوّر البيولوجي، إلى تحوّله مستنقعاً للكراهية
يغضب العالم لأنّ غزة المحاصرة منذ ستة عشر عاماً، المقتولة آلاف المرات، بادرت، لمرّة واحدة بين مئات المعارك، بهجوم على عدوها. سلسلة معارك كانت فيها دائما في موقع الرد ودفاع الأعزل، دون أن تتمكن من حماية أبنائها المعروضين أهدافاً "نظيفة" في مرمى طائرات جيش من المجرمين.
تذكّر محدثيك من الأجانب بما فعله هؤلاء بنا، وبالفلسطينيين منذ النكبة. تذكّرهم، وأنت لا تفهم كيف لا يتذكرون؟
بعضهم يفعل، فيسكت مكرهاً للاحتفاظ بصداقة خارج خلافات السياسة كما يقولون، كأنّه من الممكن الاحتفاظ بصداقة أشخاص يقفون مع عدوّك وقت الحرب، ولا يتفهمون دفاعك عن نفسك!
لكن قلّة آخرين، يبادرون دون طلب، إلى إعلاء صوتهم بالعدل، كتابة وقولاً وفعلاً. هؤلاء، تقول في نفسك، ينقذون شرف أوطانهم، ويلحقون بإنسانيتك الغارقة في الكراهية ليمسكوا بما لا يزال يلوح منها قبل الغرق الكامل. كم أنا ممتنة لهم.
من يزرع الكراهية يحصد الكراهية. كليشيه؟ صحيح. لكنه أيضاً كليشيه صحيح.
فالكراهية تُزرع زرعاً، بذرة تُبذر ثم تُروى. هي ليست كالأعشاب البرية التي تنبت من تلقائها، وليست بحاجة إلا لمطر السماء وشمسها. فالأعشاب البرية، كغريزة الإنسانية، ابنة الطبيعة البدائية. أمّا الكراهية؟ فعلى البشر زرعها، ثم ريّها وتسميدها، وهذا ما حصل لنا هنا في الشرق الذي يسميه البعض أوسطاً ونقلّده في الإشارة إلى أنفسنا.
في الحروب، الفرح ليس صافياً، هو فرح يختلط فيه غضب الإنسان لاضطراره للعنف دفاعاً عن نفسه، بالحزن على هذا العالم الأشبه بالغابة، هذا العالم العابق بالكراهية
تقولون إنّ حماس قتلت أطفالا ونساء؟ قد يكون هناك ضحايا من دون قصد في خضم المعركة الأولى. أجزم بذلك. لكنكم أنتم؟ تقتلون عن سابق تصوّر وتصميم. تقتلون دون أن تكونوا حتى مهددّين، تقتلون للتسلية.
بم أذكركم؟ بذلك الشاب العابر في البعيد كما نراه في الفيديو، والذي قتله الجنود للتسلية، مردفين طلقة النار بشتيمة بالعربية؟ أم بالفتى محمد الدرة، المتكوّر في حضن والد يحاول حمايته من طلقاتكم المجنونة كما صوّره طلال أبو رحمة والمراسل الفرنسي شارل إندرلاين؟ هذا الصحافي الذي بتّم تكرهونه بعد تلك الحادثة بالرغم من تعاطفه السابق معكم، لا بل إنكم حتى ادّعيتم عليه في المحاكم؟
أأذكركم بأفراد عائلة "غالية" الخمسة الذين قتلتموهم عندما كانوا يستجمون عند الشاطئ في غزة ذات عطلة؟ أم بالفتى محمد أبو خضير الذي قام ثلاثة مستوطنين، تسمونهم خلافاً للواقع "مدنيين"، بدلق الوقود في فمه وأشعلوه حيّاً بعد اختطافه وتعذيبه؟
حسناً. تكرهون المسلمين؟ ماذا فعل لكم المسيحيون لتبصقوا عند مرور كاهن مسيحي، أو المرور أمام كنيسة؟
ترفعون المحرقة لدى كلّ جريمة ترتكبونها، تعويذة لطرد شبح العدالة، تماماً كما يفعل المشعوذون. وهل نحن، عرباً وفلسطينيين من قمنا بالمحرقة؟ أم حلفاؤكم الحاليين الذين يستشرسون بحماية إجرامكم لئلا تعودوا إليهم؟
أنتم المحرقة، محرقة الإنسانية والعدالة والسلام، وكلّ ما هو جميل. ما زلتم منذ قرن تزرعون الكراهية، بذرة بذرة، وتحصدونها موسماً مرّاً بعد موسم. تملأون الأرض بأعشابها السامة من كلّ لون ونوع: كراهية العدو، كراهية العيش تحت الاحتلال، كراهية الذل، كراهية الإكراه على العنف.
تعالوا إلى حيث الكراهية، تعالوا إلى الشرق الأوسط، برعاية إسرائيل.