ذو الوجه القبيح الممتع (2/3)

23 نوفمبر 2021
+ الخط -

كانت شبكة (نتفليكس) محقّة حين راهنت على أن هذا المسلسل سيغيّر وجه الصناعة التلفزيونية، فقد فعل ذلك في وقت قياسي، حيث أدى نجاحه المذهل إلى إطلاق سباق بين عدد من الشركات لإنتاج أعمال تلفزيونية تعرض فقط على شبكة الإنترنت، وتهز عرش قناة HBO التي كانت المتفردة بإنتاج أعمال تعرض فقط على خدمة "الكيبل" التي لا يشاهدها إلا المشتركون بها، ولا تجد طريقها للمشاهدة العامة، ليتغير ذلك المفهوم ويصبح من حق كل من يدفع وقتها سبعة دولارات في الشهر لكي يشترك في خدمة (نتفليكس)، أن يشاهد أعمالها الحصرية، التي كان أولها مسلسل (هاوس أوف كاردز)، ثم تلاه مسلسل ناجح آخر هو (أورانج إز ذي نيو بلاك) الذي تدور أحداثه في سجن النساء بشكل كوميدي، ولتبدأ شبكة (أمازون) صاحبة موقع التسوق الشهير، بإطلاق شركة للإنتاج التلفزيوني أنتجت عدة أعمال ناجحة، كان أحدثها مسلسل "ترانسبيرنت" الذي حصل على جائزة أفضل مسلسل كوميدي، ليكون باكورة إنتاج أعمال مختلفة ومهمة وحاصدة للجوائز.

لم يكن ممكناً أن تسند شبكة "نتفليكس" عملاً بهذه الأهمية إلا إلى مجموعة من كبار المخرجين السينمائيين بالتحديد، والذين وضعوا في العمل كل إبداعهم وخبرتهم، وعلى رأسهم المخرج الشهير ديفيد فينشر، صاحب أفلام (سيفن ـ فايت كلب ـ سوشيال نيت وورك ـ بانيك روم)، والذي أخرج حلقتين مهمتين في موسمه الأول، وشارك في إنتاجه التنفيذي بصحبة اسم سينمائي كبير هو السيناريست الشهير إريك روث، الحاصل على جائزة الأوسكار وصاحب أفلام بحجم وأهمية (فورست جامب ـ ميونيخ ـ ذي إنسايدر ـ القضية الغامضة لبنجامين باتون)، كما اشترك في الإخراج 12 مخرجا، على رأسهم المخرج الكبير جيمس فولي، الذي أخرج 12 حلقة من أول ثلاثة مواسم للمسلسل، والتي يبلغ عددها 39 حلقة، وإذا عرفت أنه صاحب أفلام، مثل (جلينجاري جلين روس ـ فير ـ بيرفيكت سترينجر ـ كونفيدينس ـ ذي شامبر ـ ذي كورابتور) ستعرف لماذا تم إسناد أكبر عدد من حلقات المسلسل إليه.

هناك أيضا المخرج الكبير جويل شوماخر، وهو صاحب علامات في فن التشويق السينمائي مثل (فون بوث ـ ذي كلاينت ـ فولينج داون)، وأفلام مهمة كثيرة في مختلف الأنواع السينمائية، وقد قام بإخراج حلقتين من المسلسل، والمخرج كارل فرانكلين صاحب أفلام (آوت أوف تايم ـ ديفيل إن بلو دريس ـ هاي كرايمز ـ ون ترو ثينج) والذي قام بإخراج 4 حلقات، كما أخرجت النجمة جودي فوستر حلقة واحدة، وأخرجت نجمة العمل الممثلة الرائعة روبن رايت بنفسها 3 حلقات، كما تم إسناد إخراج حلقتين للمخرج ألن كولتر صاحب أفلام (ريميمبر مي ـ هوليود لاند)، والذي شارك أيضا في إخراج مسلسلي (سوبرانوز ـ بورد ووك امباير)، كما قام المخرج جون دال صاحب أفلام (راوندرز ـ جوي رايد ـ ذي لاست سيديوكشن ـ ذي جريت ريد) بإخراج حلقتين.

نرى في أول مشاهد المسلسل، كيف يخرج السيناتور فرانك أندروود مسرعا من بيته مع فرد حراسته حين يسمع صوت ارتطام سيارة مسرعة بكلب أحد الجيران

وبرغم تنوع أساليب هؤلاء المخرجين وغيرهم من المخرجين التلفزيونيين الذين شاركوا في العمل، فأنت لا تشعر حين تشاهد المسلسل بنشاز في الأسلوب أبداً، بل تشعر أنك تقوم بمشاهدة عمل ملحمي متناغم، يحدث أحيانا أن يتسارع إيقاع بعض مشاهده، ثم يحدث أحيانا أن تتأمل الكاميرا في تفاصيل أبطاله وردود أفعالهم، لكنك لا تحس أن الكاميرا خرجت سردا أو صورة أو إضاءة عن السياق العام للمسلسل الذي قام بتنفيذ إنتاجه 28 فنانا، على رأسهم نجمه الفذ كيفين سبيسي الحاصل على جائزتي أوسكار في فن التمثيل عن دوريه الرائعين في فيلمي (يوجوال ساسبيكتس ـ أمريكان بيوتي)، وصاحب المشوار الفني الحافل، والذي يمكن أن تقول دون أدنى مبالغة أن هذا العمل برغم كل عناصره الفنية المتميزة، كان سيفتقد الكثير لو لم يقم بأداء دور البطولة فيه ممثل بإبداع كيفن سبيسي وإدهاشه، وهو ما أدركته شبكة "نتفليكس" التي تعاملت معه بصفته الآمر الناهي في العمل، على حد تعبير إحدى الممثلات صاحبات الأدوار الثانوية التي تم طردها من العمل، بعد خلاف مع منتجيه، والتي استخدمت في حكيها عن كواليس المسلسل عبارة "كل شيء هناك يتمحور حول كيفن"، قبل أن تضطر الشبكة للتخلي عنه عقب الفضيحة التي تورط فيها عقب اندلاع ثورة #me too ليتم إنتاج الجزء الأخير من المسلسل بدونه، وتنتقل الممثلة روبن رايت التي لعبت دور زوجته إلى صدارة الأحداث.

بالتأكيد، لا يمكن فصل النجاح المدهش الذي واصل مسلسل House of cards  تحقيقه عبر السنين، عن خبرات كل الأسماء التي شاركت في صنعه، والتي تنتمي لأجيال مختلفة ولتجارب فنية وإنسانية مختلفة، ولا عن المناخ الصحي الذي يجعل كل هذه الأسماء تتناغم وتتعاون، ويقبل كل منها أن يتحول من صانع أعمال جميلة بمفرده، إلى روح مبدعة تحلق في سرب، دون أن يفقد لمسته الخاصة، ودون أن تبدو لمسته نشازا في نفس الوقت، لكن سيظل أهم أسباب نجاح هذا العمل هو ارتباطه بمناخ حرية الإبداع الذي لا يمكن فصل أي إبداع حقيقي عنه، خصوصا إذا كنت تنتظر تقديم أعمال سياسية حقيقية وقوية، تساعد في فتح أعين المشاهدين على ما يجري في حياتهم وما يؤثر فيها.

بالطبع، تخطئ لو تصورت أن ذلك سيكون درساً يمكن أن يستفيد منه الذين يراهنون في أوطاننا على إمكانية الوصول إلى إبداع حقيقي، في ظل دولة ديكتاتورية تتاجر بالدين والوطنية، وبفقر شعبها من أجل بقاء مصالح الطبقة التي تحكمها، والتي قد تتغير أسماءها وتفاصيل شخوصها، لكن يظل مشتركا بينها سعيها الدائم لتوظيف كل شيء من أجل تحقيق مصالحها، وهي طبقة لا يمكن لأي مبدع أن يقترب من مصالحها بشكل حقيقي، وربما كان آخره أن يلجأ إلى الرمز أو إلى الحديث عن أفراد ينتمون لها، مع الحرص على التأكيد على كونهم أفرادا لا يمثلون مجمل الطبقة ولا النظام السياسي، هذا إذا أراد أن يرى عمله النور، في ظل رقابة معلنة ممثلة في جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، ورقابة أعتى وأنكى هي رقابة القوانين واللوائح التي تتحكم في كل تفاصيل تصوير أي عمل فني، فضلا عن تفاصيل توزيعه وعرضه وخروجه للنور، ولو حتى على الإنترنت.

على مستوى الصنعة الدرامية، ترى في مسلسل House of cards، ومنذ المشهد الأول، تلك الحالة التي خُلق من أجلها تعبير (براعة الاستهلال)، فنحن نرى في أول مشاهد المسلسل، كيف يخرج السيناتور فرانك أندروود مسرعا من بيته مع فرد حراسته حين يسمع صوت ارتطام سيارة مسرعة بكلب أحد الجيران، وحين يذهب فرد الحراسة لإحضار العون، ينظر السيناتور إلى الكلب الذي يتألم، ثم ينظر إلى المشاهدين لكي يخاطبهم في كسر للإيهام يستمر طيلة العمل، في مناطق محسوبة للغاية، ودون إفراط منفر أو يخرج عن إيقاع الحدث، ويقول لهم "هناك نوعان من الألم: الألم الذي يجعلك قويا، والألم الذي يجعلك تستمر في المعاناة دون جدوى، ليس عندي صبر تجاه الأشياء التي لا جدوى لها"، ثم يقول وهو يقوم بخنق الكلب لكي يسارع بموته: "لحظات كهذه تتطلب شخصا يتصرف، شخصا يفعل أشياء غير سارة، لكنها ضرورية"، وحين يختفي صوت أنين الكلب ينظر ثانية للمشاهدين قائلا: "أترون، لم يعد هناك ألم".

مع بداية كهذه، ندخل مباشرة إلى قلب الشخصية التي ستظل طيلة المسلسل تتصرف وتفعل كل الأشياء غير السارة والشريرة والقذرة، طالما ظنت أنها ضرورية للبقاء، دون أن تفقد قدرتها على التواصل الإنساني مع شريك حياتها، ومع بعض من ارتبطوا بها في ماضيهم، مثل المساعد الذي يتحول إلى قاتل حسب الطلب، أو صاحب مطعم الأضلع المشوية ذات الوصفة السحرية الخاصة، والذي يرتبط بعلاقة خاصة مع السيناتور، تجعل له مكانة خاصة عنده، هو وأسرته أيضا، فترى فرانك وهو يتعاطف معه ومع أسرته، ويساندها دون أن يكون وراء ذلك مصلحة، مثل كل ما يفعله للوصول إلى هدفه، وهو الوصول إلى مقعد الرئيس، حتى ولو كان أن يقتل بيديه هو، وليس عبر مساعده حين يقتضي الأمر.

وحين يصل إلى هدفه ويتربع على مقعد الرئاسة في نهاية الموسم الثاني، نرى كيف يصل به الجموح إلى حد أن يبدأ الموسم الثالث بمشهد يقف فيه بمفرده على قبر والده، بعد أن قام حرسه بإبعاد المصورين أطول مسافة ممكنة، وبعد أن يحدث والده بشكل تهكمي، يقوم بفك سوستة بنطلونه، ويتبول على قبره حرفيا، في مشهد صاعق، يعبر فيه عن نشوة السلطة التي تملكته، والتي جعلته قادرا على أن يصل إلى أبعد مدى ممكن في التعبير عن نفوذه، قبل أن ندرك أن ذلك النفوذ سيظل طيلة الوقت لحظيا ومهددا بالضياع بسبب تعقيدات المشهد السياسي الأميركي التي تتخذ من الأفكار الكبيرة، مثل الديمقراطية والحرية وحقوق الشعب، مجرد وسائل للتنافس وسحق الخصوم السياسيين وتلبية الطموحات الشخصية.

...

نختم غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.