دماء غزّة والشاهد الأخير

دماء غزّة والشاهد الأخير

14 فبراير 2024
+ الخط -

تساءلت دينا من غزّة على منصة إكس: ماذا فعلنا ليكرهونا هكذا؟

الجواب البسيط: أنتم لم ترتكبوا أيّ خطأ يا عزيزتي، سوى أنكم جئتم في عالمٍ ظالمٍ بطبعه، فلطالما كانت لفظائع الحروب القدرة على إظهار أقذر ما في الطبيعة البشرية، وكشفت عن أعماق القسوة واللاإنسانية التي يمكن أن تظهر وسط الصراع. وبلا منازع، فإنّ أبرز الوحوش في منطقتنا هو الكيان الصهيوأميركي الذي يمارس إرهابه وساديته منذ أكثر من 75 عامًا، حتى حاول بعض المستبدّين العرب التعلّم منه وتقليده ضد شعوبهم. وكأنّ مجازر العصابات الصهيونية في الثلاثينيات، ومجازر دير ياسين، والطنطورة، وكفرقاسم، وخانيونس في الأربعينيات والخمسينيات لم تكن كافية، فاستمر الاحتلال في ارتكاب المذابح من أبو زعبل وبحر البقر في السبعينيات، وصبرا وشاتيلا في الثمانينيات، ومذابح الأقصى والحرم الإبراهيمي وقانا في التسعينيات وغيرها الكثير في القرن الماضي، ومن اعتاد سفك الدماء لن يروق له أن يبدأ القرن الجديد إلا بمجازر جنين وما تلاها من إبادة جماعية مستمرة في غزّة حتى يومنا هذا. 

ولكن مذبحة غزّة الدائرة منذ أكثر من أربعة أشهر جاءت مختلفة، جاءت لتشهدَ للمرّة الأولى على نزع الجميع بلا استثناء أقنعتهم بكلّ عجرفة ووقاحة، جاءت دماؤها الزكية لتشهد على كشف العالم عن سوءته، وإظهاره حضيض الوحشية والسادية التي تستطيع البشرية النزول لها لإلحاق الأذى بالآخرين. 

تكالبت الأمم على مليوني محاصر منذ سبعة عشر عاماً، وأحكمت حصارهم من القريب قبل البعيد، ودكتهم بكلّ ما أوتيت جيوشها الجرارة من بطش

تكالبت الأمم على مليوني محاصر منذ سبعة عشر عامًا، وأحكمت حصارهم من القريب قبل البعيد، ودكتهم بكلّ ما أوتيت جيوشها الجرّارة من بطش. وأعلن الغرب المنافق مزدوّج المعايير بكلّ صراحة أنّ جميع آليات العدالة الدولية وهياكلها لم تكن سوى مزحة سمجة اعتاد إلقاءها على مسرح الكوميديا السوداء العالمي، ليتجلّى شرّ العالم أجمع في أبشع صوره.  

أربعة أشهر من الإبادة الجماعية وتجاهل أبسط الحقوق وقدسية الحياة بكلّ قسوة. أربعة أشهر والعالم يُحاصر قطاع غزّة ويجرّد، وبشكل منهجي، الإنسان الفلسطيني من إنسانيته، وسط عجز وقهر الشعوب التي تحاول جاهدة أن لا تصل إلى الأعماق التي انحدرت لها قياداتها. ويتساءل الجميع عن طبيعة هذه الوحوش، وكيف يمكن لبشرٍ أن يكون بكلّ هذه الهمجية والقسوة؟  

وسط كلّ هذه الأهوال التي تُبث على الهواء مباشرة، وعلى مدار الساعة، يحاول البعض استجماع أفكارهم وفهم كينونة هذا الشر المتأصل في نفوس هؤلاء المجرمين القتلة وداعميهم. فما الذي يمكن أن يحفّز ويمكّن كلّ هذا الحقد البشري الذي لا يقيّده شيء؟ ما هذا الشر المطلق الذي لا يلجمه لجام قانوني أو أخلاقي أو إنساني؟ هل يمكن لأيّة محاولة من أجل التعمّق في فهم العوامل التاريخية والاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية والدينية أن تجعل المرء قادرا على استيعاب أو فهم هذا الشرّ المطلق؟ هل يمكن لأي سبر لأغوار الحقد البشري ودوافعه أن يفسّر كلّ هذا الكم من الإجرام؟ كيف سُمحَ للاحتلال بارتكاب هذه الإبادة وكيف تواطأت قيادات العالم على دعمه؟ شخصيًا لا يستطيع عقلي استيعاب كلّ هذا الشر أو محاولة إدراكه خارج حدود أنّ العالم شرير جداً بطبعه، ولا يمكن استيعاب هذه الجرائم إلا من خلال أنّ قاطن البيت الأبيض، وحلفاءه في برلين ولندن وغيرهما، ومن والاهم حول العالم، ما هم إلا شراذم من السايكوباتيين المتعطشين للدماء الذين يستمتعون حقًا بالقتل. وليست الأنظمة فقط هي المجرمة، فمقابل الملايين التي صرخت مندّدة بالجريمة صمتَ المليارات، بل إنّ كثيرا منهم لم يخف انزعاجه من صرخات الضحايا، وودّ لو قتلوا بصمتٍ بعيدًا عن رفاهه الاقتصادي ليتمكن هو من المضي قدمًا في حياته بهدوءٍ وسكينة. 

مقابل الملايين التي صرخت مندّدة بالجريمة في غزّة صمت المليارات، بل وهناك كثير ممن لم يخف انزعاجه من صرخات الضحايا

وبينما حاول بعضنا لعقود، الإيمان بجدوى النظام العالمي، علينا الآن أن نواجه الحقيقة، وأنّنا أمام نظامٍ شرير في جوهره، بكلّ ما يعانيه من عدم المساواة الهيكلية والانحياز الممأسّس والإجراءات الإجرامية الدولية في التعامل مع الدول والقضايا، نظام حربائي يتلوّن ويتبنى مواقف مختلفة كليًا وفقًا لمصالح الدول العظمى ومعتقدات قادتها البالية ورغباتهم السايكوباتية.

في هذا النظام العدواني الذي لا يمكن أن يقبل بغير الطغيان دستورا له، تشكّل نظام شرير غدا الكثير من الأفراد تروس في طغيانه، حتى لو لم يشاركوا بالقتل مباشرةً، فتارة بالدعم والتهليل المباشر للجرائم، وتارة أخرى من خلال الصمت وتجاهل الجرائم وكأنّها لا تعنيهم، حتى بتنا نستطيع أن نرى بوضوح ديناميكيات الجماعات التي تعزّز الامتثال والطاعة للسلطة مهما طغت وتجبّرت. وتعدّدت الطرق القذرة التي تبرّر بها الأنظمة والأفراد أفعالهم في خضم هذا الانهيار الأخلاقي، إنهيار تمّت هندسته ضمن نظام عالمي إرهابي تبطش فيه القوى العظمى بكلّ من سواها.  

لطالما كانت طبيعة الشر الأخلاقي موضوعًا معقدًا، خضع لنقاشات مستمرة فلسفية وأخلاقية ولاهوتية ونفسية للإحاطة بمفهوم الشر، ولكن العدوان على غزّة يثير نقاشا جديدا حول شر المنظومة الدولية الحالية بأكملها، وحيث إنّه لا يوجد علاج واضح وسريع لهذا النظام العالمي المهترئ، قد تكمن الخطوة الأولى للخروج من هذا القاع في الاعتراف بالعوامل النظامية والمؤسّسية التي تساعد على ارتكاب مثل هذه الفظائع، بما في ذلك الهياكل السياسية العالمية التي تُوّلد وتعزّز كلّ هذا التعصّب وإرهاب الدول العظمى المُمأسس المدعوم من قبل ديكتاتوريات جمهوريات الموز، وبفشلِ كامل منظومات وآليات المجتمع الدولي بشكلها الحالي.

إذن، نحن لا نواجه شرًّا فرديًا كما في الأفلام يمكن أن ينتهي بتحييد الشرير، نحن نواجه شرًّا مطلقًا ممأسسًا، وعليه فأيّة فكرة للتغيير أو إحقاق العدالة من خلال نفس المنظومة الشريرة لا يعدو كونه خداعا للنفس ومضيعة للوقت، فبدلاً من العمل من خلالها لا بدّ من الاشتباك معها وهزّها من أساسها والبدء بعملية استبدال شاملة، على أمل أن يمهد ذلك الطريق لإيجاد منظومات أقل شراً، وحتى ذلك اليوم اللهم أنصر غزّة واحفظ أهلها وسامحنا على تقصيرنا. 

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.