دفاعًا عمّا تبقى من الإنسان العربي
أمام السفارة الإسرائيلية في الأردن، وصل المتظاهرون بعد تجاوز قوات الأمن المدجّجة، التي تحمي سفارة العدو وكأنّها تحمي قصرًا وسيادة، وتدافع عن مبناه وكأنّها تذود عن شرفها.. وضع المحتجون كلّ ذلك جانبًا، ألقوا "التنسيقات" في أقرب مكبِّ نفايات، ثم انطلقوا نحو جدران الجاثوم الذي يجلس فوق صدر الأردن، طاعنًا خاصرته، في البلد العربيّ الأقرب من حيث كلّ شيء، طبيعةً وأهلًا ولسانًا وأصلًا، من فلسطين وأهلها..
وفي مصر، بينما يفطر الأهالي في "المطرية" بالإفطار الجماعيّ الذي لم تنقطع عادته منذ سنوات طوال، كانت فلسطين حاضرة، ولو على استحياء في حضور الطعام والشراب، وهتف الصائمون لغزّة، وأشعلوا الشماريخ وهم يذكرون إخوتهم هناك، وابتلّت حناجرهم بذكر الأحباب من الجيران والأهل، وهم يعلمون أنّهم لو أطالوا الهتاف ساعة، أو حوّلوا الإفطار إلى مسيرة، ولو قطعوا غير حارتهم شارعًا إضافيًّا، سيتسحرون السحور التالي في قسم عين شمس، ولاظوغلي، ومقرّات الأمن الوطني القريبة، ما علمنا منها وما لم نعلم، يحاكَمون على تطوّعهم بحكم الفطرة، لمناصرة غزّة، ما لم يناصرها الرئيس شخصيًّا، ويحشد لجانه لاستغلالها ورقةً في أيّ هدف يخصّه، وكثيرة هي الأهداف التي تخصّه ولا يعلمها غيره.
وفي المغرب، حيث نظام التطبيع، تخرج النساء في أفواجٍ كأنّهنّ استدعين أرواح جداتهنّ في الأندلس السليب، يبكين بحرقة تتخلّل الأصوات المبحوحة، ينادين الشباب والرجال أن ينضموا إلى المسيرة، أن يكثّروا سواد المحتجّين، ويقلقوا أعوان المحتلين، دون مسحٍ للجوخ، ولا لعق للأحذية، وأن تبقى فلسطين العنوان، فلا يصح أن تخصّص القدس بابًا للمغاربة، ولا يفتح المغاربة شراعةً ولا نافذة ولا هوةً ولا ثقبًا، نحو القدس والأقصى وغزّة.
لا يصح أن تُخصّص القدس بابًا للمغاربة، ولا يفتح المغاربة شراعةً ولا نافذة ولا هوةً ولا ثقبًا، نحو القدس والأقصى وغزّة
وفي العراق المشتَّت، المشرذم بلا سببٍ ولا هدفٍ، المقطّعة أوصاله والمتكسّرة نبالُه، يخرج شجعانه يهتفون لغزّة، كأنهم اكتشفوا للتوّ تقصيرهم، أو استطاعوا فجأةً التحرّر من شواغلهم، ينادون الأمصار، ويشحذون همم بغداد والموصل وأربيل، يبعثون الروح في كلّ حيّ، وهم أهل العراق الذين لم تتخلَّ عنهم غزّة، وهي تحت احتلالها، حين انتفض أهلها ليلة سقوط بغداد، ولم يناموا ليلتها، حسرةً وبكاءً، سهرًا واشتباكًا.
وهاهي من جديد، تلك الشعوب المتعَبة، المكبّلة، على رأسها القاهرة المقهورة، السليبة، تحاول العودة، ولو بوقفةٍ، ولو بمسيرةٍ لا تتجاوز العشرة أشخاص والعشر دقائق والعشرة أمتار، تحاول أن تنوب عن المائة وعشرة ملايين، تهتف وتنطلق وتتكاتف نحو فلذة الكبد المغتال في الشمال، تلك الغزّة الغصّة، التي يمنعنا حكامنا عن أن نتألم لها، وأن نصرخ، وأن ندخل إليها غرفة العمليات، فننقذها ونطعمها ونسقيها ونحارب معها السرطان الجاثم على صدرها الحر النقيّ.
صحيح أنّ ذلك الخذلان لم يرِد من قبل في ذاكرتنا العربية والإسلامية، ولم نصل إلى هذا الحدِّ من السخافة والنطاعة والجبن، وبلا مبرّر أبدًا، لكن من باب وضع الأمر في سياقه، فإنّ هذه الشعوب حيّة، وتلك الجموع لها ضمائر لا تنام، وتلك العيون تبكي منذ 170 يومًا بلا توقف، وهذه الحيوات كلّها تهون فداء ساعة داخل القطاع الجريح، كلّ هؤلاء لا يتوانون عن زحف، ولا يُحجمون عن سجال، ولا يفرّون من معركة، وإنّما هم مكبَّلون وأسرى، دفعت إسرائيل كثيرًا، من نجاسةِ عرقها، لتبقيهم هكذا، بتولية هؤلاء الرؤوس الخربة عليهم، ولتحويل بلدان الطوق إلى طوقٍ خانق، يمنع الوصول إلى القلب من كلّ الجهات.
كأنّ الأسلاك الشائكة مربوطة بأحد أقدام الكرسيّ الجالسين عليه، فإن شُد السلكُ، وسقط الجدار، سُحبت القدم، وسقط الكرسي، فسقطوا
لسنا بلا دم يا حبيبتي يا غزّة، لكن هؤلاء الحكام، أصحاب اللقطات والسقطات، والخطَب والإسقاطات، هم من قطعوا الشرايين والأوردة، وجعلوا كلّ طرف في طرفٍ، ولا يسمحون لنا أن يموت نصفنا بينما يصل النصف الآخر، وإنّما عروشهم مربوطة بتلك الحدود، ولديهم استعداد لقتل مائة مليون إنسان مقابل ألا يُخترق حاجز واحد، كأنّ الأسلاك الشائكة مربوطة بأحد أقدام الكرسيّ الجالسين عليه، فإن شُدّ السلكُ، وسقط الجدار، سُحبت القدم، وسقط الكرسي، فسقطوا، ولذا هم يغلقون كلّ الأبواب، دون فوّهة واحدة، تسَعُ مقدّمة بندقية.
ولكن.. تلك الجموع ستأتي يا غزّة، ستنفر وتكرّ، ستهطل كالغيث، وتثور كالبركان، وتفيض كالفيضان، وتجري كالسيل، ولن تُبقي في طريقها أحدًا، ستُحرّر نفسها حين تحرّرك، وستُحررك حين تحرّر نفسها، كأنّها مسألة معقدة يلزمها توحيد التوقيت، أن تفعل الشيئين معًا، فتتحرّرين ويتحرّرون، وتسقط إسرائيل ويسقط الحكّام، وذلك وعد الله الحق، وتلك سنّته في كونه، شاء الجالسون بالكروش على العروش أم أبوا، سيحصل لا محالة.. تلك الشعوب المظلومة ليست ظالمة، تلك الشعوب الجَسورة ليست جبانة، تلك الشعوب القادمة لن ترجع إلى الوراء مجدّدًا، ستأتي ذات يوم، لتمزّق الخيام وتبني البيوت وتلغي الحواجز، ولن تعود إلى مرابضها أبدًا.