"دشرة" جيرارميه

18 مارس 2019
+ الخط -
في نهاية يناير/ كانون الثاني من كل سنة، يقام في جيرارميه، شرق فرنسا، "المهرجان الدولي للفيلم العجائبي"، كان هذا العام فيلم "دشرة" لعبد الحميد بوشناق أحد الأعمال التي جرت برمجتها للعرض. فيلم تونسي؛ إنه سبب كاف للتفكير في الذهاب في قلب الشتاء إلى.. جيرارميه.

تعني "دشرة" في العامية التونسية بلدة صغيرة في الريف. وفي الحقيقة لم تكن جيرارميه أكثر من ذلك، فرغم شهرة المهرجان وسمعته، فستفاجأ بدءاً بأنك لن تجد لجيرارميه أثراً في شبكة خطوط السكة الحديدية على رحابتها في فرنسا. ستسعفك شبكات أخرى جهوية كي تصل إلى المكان، والذي سيفاجئك مرة أخرى بكونه ليس أكثر من تجمّع سكاني تتوفّر فيه أساسيات الحياة، ويمكن التجوّل في كل شوارعه في أقل من ساعة.

من الغريب حقاً أن مهرجاناً بهذا الزخم يقع في هذا المكان النائي، حتى يخيّل إليك أن الأمر يتعلّق بتكثيف أكبر لفكرة "الفيلم العجائبي". فحين نعرف أن المهرجان يقام في نهاية يناير/كانون الثاني، سيكون من المرجّح أن المكان شبه مطمور بالثلج، وهو ما وجدته حقاً، فمن المحطة إلى صالة العرض، وبينهما قرابة 500 متر، لا مفر من اختراق ثلاثة أو أربعة أرصفة بثلوجها التي يبلغ ارتفاعها بين عشرة وعشرين سنتيمتراً، وعليك التحسب من انزلاقات كثيرة كلما قطعت الطريق بسبب تجمّد المياه بعد أن مرّت شاحنة البلدية لتحرير الطريق من الثلوج.

باختصار، جيرارميه هي بلدة صغيرة في جبال الفوج، تتميّز فقط بكونها تحتضن بحيرة صغيرة. وهذا العنصر وحده كاف كي تصبح نقطة جذب سياحي على طول السنة، بمشاهدها الرائعة بين الثلوج والجبال والبحيرة نصف المتجمّدة وقتها.


لكن، وإذا كانت البحيرة عاملاً طبيعياً، فلا يمكن قول الشيء نفسه عن المهرجان الذي يحظى بقوة دعاية رهيبة. في المحصلة، هناك نتيجة واحدة: تحويل هذه الدشرة إلى فضاء حيوي. لم يكن كل ذلك ممكناً من دون أن تصل وسائل نقل بديلة البلدة بمدن قريبة منها مثل روميرومون وإيبنال ونانسي وسترازبورغ، فتجعلها، وهي "الدشرة" النائية لا تقلّ نشاطاً عن مدينة كبيرة.

لكن يلفتك أنه توجد في جيرارميه فضاءات عرض يكاد عددها يكون ليس بعيداً عن عدد صالات العرض في تونس العاصمة، وفي الغالب فإن صالات جيرارميه مجهّزة أفضل منها جميعاً.

لكن ماذا عن الـ"دشرة" الأخرى، أي الفيلم التونسي. صالة كبيرة ممتلئة على آخرها، وفيلم لا يخيّب "توقعات" متفرّج متعوّد على أفلام الرعب، الأميركية خصوصاً. رغم ذلك، يفصح من البداية عن هويّته التونسية.

كان جيداً أن الفيلم يضعنا في سياق قضية حقيقية في تونس: البحث عن الكنوز واستعمال الأطفال في ذلك، لكن هذه الإشارات كانت موزّعة بشكل متباعد في العرض، يشتّتها بحث عن مفردات سينما الرعب أكثر من بناء الحبكة، ومن العسير على من لم تكن له خلفيات بعينها حول هذه الممارسات في تونس أن يستطيع مسك خيوط كثيرة داخل الفيلم. تمكن ملاحظة ذلك بسهولة، وأنت تتابع العرض مع جمهور فرنسي. تعلن إحدى المتفرجات: "إنه جميل وصادم، ولكني لم أستطع مسك الحكاية". كانت تعتقد أن عناصر فاتتها من الحوار الذي كانت تقرأ دبلجته وأحياناً لا تلحقها، غير أن صعوبة مسك الحكاية تنسحب على متفرّج تونسي أيضاً.

تاهت الفكرة التي يعلنها فيلم "دشرة" بشكل مباشر في نهايته، ربما لأنه اتجه أكثر إلى بسيكولوجيا الشخصية الرئيسية ومحاولة سريعة لتفسير بعض نقاط الغموض في النهاية. في المجمل، كان العنصر الأميركي في فيلم "دشرة" غالباً على العنصر التونسي.

ما أقنع المتفرّجين وأبهرهم في أحيان كثيرة هو الصورة. بخلفية تونسية، يمكن القول إن "دشرة" قدّمت على مستوى الصورة شيئاً مما لم يصل إليه المنجز السينمائي التونسي. هناك بعدٌ إضافي في اللقطات، في تصوير المناظر الطبيعية، واللقطات القريبة، والمراوحات الناجحة بين الظلمة والنور. ومع ذلك، في أحيان كثيرة ضرب هذه المتعة الحضور المبالغ فيه لكليشيهات سينما الرعب.

بالتأكيد، سيحسب لهذا الفيلم أنه أول شريط روائي تونسي طويل ضمن صنف فيلم الرعب، لكن ألا يمكن إنتاج هذا الجنس السينمائي دون عناصره الشكلية. لقد وضع الموضوع الذي اختير للعمل كل شيء على الطريق الصحيح، ثم تاهت المشاهد في سلسلة من الاستحضارات الجاهزة لسينما الرعب.

لكن المتفرج وهو يخرج من المتاهة التي يسبّبها تفكّك البناء السردي، سيجد أن شخصيات في الفيلم يمكن أن تعلق في ذهنه لسنوات، وتلك من نقاط قوّة التخيل. هنا أذكر أن الروائي الفرنسي جان فليب ديبوت قد اعتبر أن عمودَيْ كل عمل تخيلي هو بناء الحبكة وبناء الشخصيات، ثم يردف "ليس من السهل أن تكون على ذمّتنا حبكة قوية، لكن يمكن إنقاذ ذلك ببناء متقن للشخصيات". ذلك تماماً ما يفسّر لي النجاح الجماهيري لـ"دشرة"؛ يمكننا أن نصدّق الشخصيات وأن تخرج معنا حين نغادر قاعة السينما.

لم يكن ذلك ممكناً دون أداء مرح وقريب من الواقع لممثلين معظمهم في أوّل تجربة سينمائية، مثل مخرج العمل، لقد كان ذلك عنصر "نقاوة" نجح الفيلم في استثمارها بصرياً. علينا ربّما أن نعرّج هنا على مدرسة هؤلاء، "تياترو ستوديو"، واستفادتهم من جماليات المسرح وتقنياته الأدائية دون الوقوع في مسرحة السينما.

أخيراً، تضمّن العمل فرصة رائعة أخرى للتحليق، لكنها أهدرت تقريباً. لقد كانت فكرة جيّدة بناء حبكة الشريط على هيكل تحقيق صحافي استقصائي، غير أن عيناً متمرّسة بالصحافة لن يقنعها الكثير مما تشاهده. ربما نجد تبريراً بأن التحقيق الصحافي يقوم به طلبة ضمن مشروع تخرّج، لكن كان يمكن الاستفادة من هذا الإطار أكثر في نسيج العمل، وحتى في بناء الشخصيات.

ما غفل عنه "دشرة" هو أن السينما، والتخيل بشكل عام، فرصة رائعة لقول ما لا تستطيع أن تقوله الصحافة الاستقصائية في الواقع وعنه، فرصة لاختراق حدودها وإحراجها. كان يمكنه أن يقول شيئاً عن واقع الصحافة في تونس ولم يقلها، وكان يمكن أن يقول أشياء كثيرة حول قضية استخدام الأطفال في البحث عن الكنوز، ولكن لم يقلها بشكل واضح حين لم يستثمر العنصر الصحافي.

يبقى أنه لا يمكن أن ننسى السياق الأصلي: نحن أمام أوّل فيلم رعب تونسي، وهناك مسافة طويلة لقطعها، تماماً مثل العودة من جيرارميه بعزلتها الجبلية وبياضها المكثّف إلى واقع الحياة اليومية وألوانه المتعددة، ومنها سوداوية ينشرها خطأ طبي يذهب ضحيّته 12 مولوداً.. أليست هذه أيضاً تضحية بالأطفال؟ أطفال تونس بين مشعوذين يبحثون عن كنوز وأصحاب مصالح يسعون إلى خصخصة الصحة العمومية؟