دراسة عن ثروة هيكل وتأثيره (2/3)

10 اغسطس 2021
+ الخط -

في الجزء الثاني من كتابه، يحلل جمال الشلبي مواقف محمد حسنين هيكل التي اتخذها في مواجهة أحداث تاريخ مصر المعاصر في عهدي عبد الناصر والسادات، ويبدأ برصد مواقف هيكل تجاه سياسات عبد الناصر كمستشار وصديق ومدافع عن السياسة الداخلية والخارجية، حيث انحاز لعبد الناصر بقوة في سياسات الإصلاح الزراعي أو ما يسميه هيكل "تأميم صراع الطبقات"، وسعى في كتاباته وتصريحاته للإعلام الغربي لتفسير أهمية قرارات عبد الناصر وشرح السياق الذي اتخذت فيه، متحدثاً عن النتائج الإيجابية "المعجزة" التي حققها الاقتصاد في ظل عبد الناصر، وهو ما عرض هيكل لانتقادات حادة من خصوم عبد الناصر من إخوان وساداتيين، لينقل الشلبي عن مرشد جماعة الإخوان عمر التلمساني استشهاده بما نشرته صحيفة (أخبار اليوم) عن ثروة هيكل، ليكشف من وجهة نظره كيف كانت السياسة الاقتصادية الناصرية مدمرة للأمة ونافعة فقط لعبد الناصر ورجاله، يقول التلمساني في صحيفة (أخبار اليوم) عدد 10 ديسمبر 1977: "نعرف أن هيكل هو أغنى اشتراكي في مصر، إنه يملك شقة في الهرم وشقة على شاطئ النيل تتكون من 16 غرفة وشقة في الاسكندرية على شاطئ المعمورة، ولم يفكر هيكل أبداً في ان يرد أياً من هذه الاتهامات التي تمس الكرامة والشرف، وهو الذي لم يكن قبل الثورة وقبل التعرف على عبد الناصر يملك إلا مبالغ بسيطة كان يتلقاها مقابل بعض الإعلانات في الصحيفة".

ومع أن الباحث الأردني أورد قائمة ثروة هيكل التي نقلها عمر التلمساني عن صحيفة (أخبار اليوم)، والتي أضيف إليها بعد ذلك عزبته الضخمة في برقاش بضواحي الجيزة وشاليه الساحل الشمالي، إلا أنه حين التقى بهيكل اختار أن يسأله عن موقفه من الشريعة الإسلامية، مع أنه كان من الأولى أن يسأله في هذه النقطة ليتيح لهيكل حق الرد على هذه النقطة، التي يمكن الرد عليها بسهولة لأن هيكل كان منذ منتصف الخمسينات أهم وأشهر كاتب عربي في العالم، تحقق كتبه الصادرة بعدة لغات أعلى المبيعات وتتهافت الصحف العالمية الكبرى على نشر مقالاته، ويتقاضى أجره بالعملات الصعبة مقابل كل كلمة يكتبها، وهو ما يجعل ثروته نتاجاً لجهده وعمله كصحفي، لأن صحفيين كثيرين غيره اقتربوا من نظامي عبد الناصر والسادات ودافعوا عنها ولم يحققوا ربع ما حققه.

خلال قراءته لتجربة هيكل كرئيس لتحرير صحيفة (الأهرام) كبرى الصحف المصرية ثم عمله كوزير للإعلام، يسأل جمال الشلبي: هل كان هيكل يقدم صحافة في خدمة السلطة؟ وخلال سعيه للإجابة على السؤال يقر أن هيكل كان رافضاً لتأميم الصحافة المصرية، وأنه حاول أكثر من مرة إثناء عبد الناصر عن قراره بتأميم الصحافة أو تعديل هذا القرار. ويقر أيضاً أن صحيفة (الأهرام) كانت خاضعة كغيرها من الصحف لقبضة الرقابة الخانقة، لكن مقال هيكل الشهير (بصراحة) كان يحظى بمعاملة خاصة وقف وراءها جمال عبد الناصر، ويرى الشلبي أن هيكل استفاد من هذه المساحة للقيام بالنقد الذاتي للنظام ولإدانة ممارسات مراكز القوى، كما أن هيكل قام بتطوير صحيفته ليحولها من صحيفة مديونة ومتهالكة تجاوزت خسائرها المليون ونصف جنيه، ولم تكن تطبع سوى 68 ألف نسخة عندما تسلمها في عام 57، ليتركها عام 1974 وقد تجاوز رأس مالها 40 مليون جنيه وعدد نسخها يتجاوز ثلاثة أرباع المليون نسخة ولتصبح واحدة من أفضل عشر صحف في العالم حسب تقييم المجلس الدولي للصحافة.

يصل جمال الشلبي إلى تحليل نهائي لمواقف هيكل في المرحلة الساداتية، تؤكد أنه ينتمي إلى مدرسة سياسية تبحث وقبل كل شيء عن مصلحة مصر مع المحافظة على التوازن بين الشرق والغرب

خلال حديثه عن العلاقة بين هيكل الصحفي وناصر السياسي، يحكي هيكل لجمال الشلبي الحكاية الكلاسيكية الشهيرة التي حدثت في مؤتمر باندونج عندما اشتكى الصحفيون من اهتمام عبد الناصر الكبير بهيكل ليرد عليهم عبد الناصر: "من قال لكم إنه يتلقى معلومات مني؟ على العكس إنه هو الذي يعطيني اياها"، ويؤكد الشلبي أن هذه العلاقة لم تمنع هيكل من أن تكون له آراء مستقلة مطالبة بالتغيير ومنتقدة لبعض السلبيات، وهو ما زاد الثقة المتبادلة بينه وبين عبد الناصر. يقول هيكل لجمال الشلبي: "قالوا أن الصحافة ظلت طوال فترة من الزمن احتكاري الخاص، وأنني كنت اعمل لذاتي ولمصالحي الشخصية في حين أن إحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين وصلاح ماهر ـ لعله يقصد صلاح حافظ ـ ومصطفى أمين كانوا يكتبون في الصحف، وينسون أنني اقترحت عدداً منهم لمواقع مسئولية".

هذه الثقة المتزايدة جعلت عبد الناصر يختار هيكل لموقع وزير الإعلام في 25 ابريل 1970، ولم يفلح هيكل في الاعتذار عن المنصب، وينقل الشلبي عن الكاتب جان لاكوتور إنه سأل دبلوماسيا مصريا عن سر اختيار هيكل لهذا المنصب وهو رجل كان قد أصبح الاقوى في مصر بعد الرئيس، فرد عليه الدبلوماسي ردا مثيرا للتساؤل، حيث قال له: "لتهيئة الرأي العام للسلام لابد من رجل على هذا القدر من النفوذ"، لكن الشلبي لم يكلف نفسه عناء مناقشة هذا الرأي المهم، ومر عليه مرور الكرام، ليستعرض سياسات هيكل كوزير عندما حاول أن يخلق نسخة مصرية من الـ "بي. بي. سي"، وحين اكتشف وجود مخصصات كبيرة لبعض الصحف اللبنانية مثل مجلة الحوادث مقابل القيام بدعاية للدولة الناصرية وقام هيكل بإيقاف هذه المخصصات وإدانة هذا السلوك.

يستعرض جمال الشلبي تطور موقف هيكل تجاه خليفة عبد الناصر الرئيس أنور السادات من الدعم الواضح إلى مرحلة التعايش والتي اختار هيكل فيها رفض المشاركة في العمل السياسي والاكتفاء بالعمل السياسي في الظل، أو كما يقول هيكل نفسه "الاكتفاء بوضع الصديق المقرب للقيادة السياسية"، وهو ما يفسره هيكل بقوله للباحث: "لم أكن املك قوة سياسية ورائي، ولم اكن أنتمي إلى أي حزب لذلك فإني لم أرد الدخول في الصراع على السلطة"، لكن علاقتهما سرعان ما تغيرت لتتحول إلى تباعد حذر ثم تباعد متوتر، ثم معارضة محسوبة تحولت بعد ذلك إلى معارضة شرسة.

يصل جمال الشلبي إلى تحليل نهائي لمواقف هيكل في المرحلة الساداتية، تؤكد أنه ينتمي إلى مدرسة سياسية تبحث وقبل كل شيء عن مصلحة مصر مع المحافظة على التوازن بين الشرق والغرب، ويستشهد بتعريف غالي شكري المبتكر، وهو أن هيكل هو "الناطق باسم اليمين المستنير والمتحضر، إنه المؤيد الجريء للتطبيع مع الولايات المتحدة الاميركية في الصراع الشرق اوسطي، والخصم المعارض للتحالف معها"، ويضيف الشلبي أن هيكل يبدو وطنيا حقيقيا مدافعا عن مصر وعن فكرة الأمة العربية ووحدتها، ولذلك كان يسعى جاهدا لكي يبقى محايدا حتي يتمكن من الدفاع عن مبادئه.

في فصل بعنوان (الرجل الجدلي) يصف جمال الشلبي هيكل بأنه الصحفي الأكثر إثارة للجدل والنقاش في مصر، ويستعرض موقف هيكل من الهجوم على عبد الناصر في عهد السادات ومبارك، وكيف قاوم هيكل ذلك الهجوم مقاومة شرسة، وكيف كان بدوره هدفاً لهجمات حادة وضعته في قلب الجدل طيلة الوقت، حيث تم اتهامه عدة مرات بانه عميل للمخابرات الاميركية، خاصة من عميل المخابرات الاميركية مايلز كوبلاند في كتابه (لعبة الأمم) وكتابه (دون ساعة أو خناجر)، لكن هيكل رد على هذه التهم في حواره مع جمال الشلبي قائلا إن "مايلز كوبلاند ليس أهلاً للثقة لأنه وبصفته عميلاً لأجهزة الاستخبارات، لم ينشر اتهاماته هذه إلا بعد موافقة الاستخبارات المركزية الاميركية، والتي كانت تهدف إلى شيء واحد هو تشويه التجربة الناصرية، وتدمير رموزها"، ثم أكد هيكل أن عبد الناصر لم يلق بالاً لعروض الخدمات التي قدمها له كوبلاند الذي كان يأمل بأن يعيّن مسئولاً عن العلاقات العامة الدولية لدى عبد الناصر مكان هيكل"، وهو تصريح لا أدري مدى دقته، إذ يستحيل أن يصف هيكل دوره مع عبد الناصر بأنه كان يعمل في العلاقات العامة، وربما كان هيكل يقصد أن هذا كان تصور كوبلاند، لكن جمال الشلبي لم يصله ذلك، ولكي ينهي حديثه في هذه النقطة يضيف هيكل للشلبي أنه "من الضروري التمييز بين العلاقات المفتوحة مع الاستخبارات، فليس الحوار مع سفير ما حواراً مع مسئول من الاستخبارات والا أصبح الجميع متهمين بالعمالة والتآمر".

...

نختم غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.