خواطر على هامش الأحداث

02 فبراير 2021
+ الخط -

أنت بالتأكيد تعرف تلك اللحظة التي تمر فيها على أركان بيتك قبل النوم، تتأكد أن بابه مغلق، تطفئ ما تُرِك من الأنوار، تغلق شباكاً منسياً، تتمِّم على أطفالك، تغطيهم لو راحوا في النوم، أو تسمعهم كلمتين لو تأخروا على موعد النوم. هناك حالة رهيبة تحسها في هذه اللحظات، سواءً كنت أباً أو أماً، حين تتذكر مسئولياتك وتواجهها في صورة هذه التفاصيل الصغيرة التي لن تتركك في حالك وتمضي لحال سبيلها.

لو كنت قد اختبرت الفقد ـ بِعد الشرـ ستتذكر العزيز الذي فقدته، أو ربما ستتأمل أحوالك وكيف تغيرت، يعني إذا كنت قد خضت تجربة طلاق أو تغرّبت أو سافر أولادك بعيداً عنك، أياً كانت ظروفك، سيدور حوار بينك وبين نفسك في تلك اللحظات، أحياناً سيطول ويصاحبك إلى سريرك ويقلق منامك، وأحياناً ستطرده بالعافية، أو ستلهي نفسك عنه بفيلم أو بكتاب أو بالثرثرة مع صديق أو حبيب أو قريب، المهم أنك ستسعى إلى تجاوزه حتى لا يعطلك معه أكثر من اللازم.

تخيّل الآن أرجوك، كم أباً وأماً في مصر يعيشون في كل ليلة هذه اللحظات، في كل بيت به محبوس أو معتقل أو مختفٍ قسرياً، لمجرد أنه قال رأيه وحاول ممارسة حقوقه كمواطن ورفض أن يعيش في دولة تُحكم بالحديد والنار، أو حتى لأنه ظُلِم وأخذوه في الرجلين من باب الاحتياط، تخيل ما يفكر فيه كل هؤلاء الآباء والأمهات والأقارب والأحباب، تخيّل أشواقهم ووجعهم وأملهم ويأسهم، تخيّل أسئلتهم عن ثمن كل ما يجري، وعن لحظة نهايته وشكلها وعن ثمنها حين تأتي بعد طول أو قُصر انتظار، ثم تخيّل بعد كل ذلك أن هناك ملايين غيرك وغيرهم، يتصورون أن هناك بلداً يمكن أن يتقدم أو ينصلح حاله، وهو متصالح مع وجود آلاف البيوت التي تعيش مثل هذا الوجع كل ليلة.

كتبت هذا الكلام لكي أذكر نفسي وإياكم أن المزايدات ليست رأياً بل هي انفعالات، والانفعالات خصوصاً إذا كانت حادة وصاخبة لا تُناقش

....

في اعتقادي، ما يدفع الكثيرين للمغالاة في الغضب من صاحب رأي خاطئ أو موقف مستفز والمطالبة بالتشديد في عقوبة المخطئ بما هو أقسى من العقوبة القانونية، اطمئنانهم المبالغ فيه إلى الزمن ويقينهم أنهم سيأمنون من نوائبه، لكنهم حين يخطئون هم أو أبناؤهم، وسيخطئون يوماً ما أو سيتهمون بالخطأ يوماً ما، سيكتشفون أهمية العدل والالتزام بالضمانات القانونية وخطورة المبالغة والأفورة.

....

ستستمر أزمة الشعر التي وعينا على الدنيا وأوشكنا على الخروج منها والكل يتحدث عنها، طالما ظل الشعراء مصممين حين يأتي الخريف والشتاء على الكتابة عن أوراق الشجر المتساقطة والصهد والوحشة والحنين والزمهرير، ومترفعين عن الكتابة عن السحلب وشوربة العدس والحِتَت المِحروَقة من حلّة محشي الكرنب.

....

تظل الأفكار نبيلة والمعاني مهمة، إلى أن يتحمس لها بشدة تجمع بشري كبير من الناس، فتتحول فجأة إلى أداة على الآخرين وتطليع أيمانهم وحلب المكاسب بشكل يدفعك إلى لعن أبو الفكرة النبيلة وأم المعنى المهم.

....

اللحظة التي تشتم فيها شخصاً لا تعرفه بشكل مباشر على "السوشيال ميديا"، هي اللحظة التي تحس فيها كإنسان بالقوة والتحقق والامتلاء والفخر، وبعد أن تنتهي تلك اللحظة، سترجع من جديد مواطناً عادياً بسيطاً ومسالماً، يمكن لأي ضابط أن يلزقك على قفاك أنت والذي شتمته ومن يتشدّد لكما، من غير ما تقولوا: بِم..

....

كنت على وشك أن أكتب تعليقاً طويلاً عريضاً لصديق أحذره فيه من خطورة إدمان المزايدات التي قد تزيد من إفراز هرمونات الأوكسيتوسين والدوبامين، لكنها في النهاية "تقلب بغمّ" خصوصاً لو كنت من المشتغلين بالشأن العام والمفروض أن تخاف من تقلبات الدهر، ولذلك ينبغي أن تكون حذراً لكي لا تعبر الخيط الرفيع بين الانتقاد المشروع والمهم والمزايدة المجانية، وكنت أنوي أن أحكي للصديق عن مصائر بعض من كبار المزايدين الذين تحولوا مع الوقت إلى غير مهتمين حتى بالحصول على رخصة لـ"التعريص" ويمارسونه كرياضة بديلة عن المزايدة، لكنني تكعبلت بالصدفة في تعليق كتبه أحدهم رداً على صديق يحتفي بأثر رجعي بجائزة الأمير كلاوس التي حصل عليها عمنا أحمد فؤاد نجم وحرمه الموت من حضور مراسم تسليمها، فقال له الـ "أحدهم" الذي يعمل أستاذاً جامعياً إن "الشاعر نجم" لم يحصل على هذه الجائزة إلا لكي يلعب دوراً خفياً لخدمة الغرب، فانتابتني حالة فريد شوقي في نهاية فيلم (جعلوني مجرما) حين كاد أن يفتك بيحيى شاهين لولا أن سمع صوت الأذان، وقمت على الفور بمسح التعليق الطويل العريض الذي كنت أرسله لصديقي الملتاث بنشوة المزايدات، وكتبت هذا الكلام لكي أذكر نفسي وإياكم أن المزايدات ليست رأياً بل هي انفعالات، والانفعالات خصوصاً إذا كانت حادة وصاخبة لا تُناقش، بل يُترك التعامل معها للزمن.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.