خسارات المنفى الاجتماعية
في نقاش بالأمس مع أحد الأصدقاء العابرين بعاصمة الضباب في زيارة سريعة، تطرّقنا إلى تأثيرات المنفى على أصحابه، وكيف تنقلب حياة الناس رأساً على عقب، أطرقت قليلاً وأخذت أفكر ملياً لأجيب عن سؤال: ما الذي تغيّر فيك؟
اكتشفت، وأنا على مشارف عشر سنوات من النفي، أنّي أحمل همّ التأثير الاجتماعي على المنفيين، قبل التأثيرات والتغيّرات التي تطرأ على الناس، سواء على المستوى السياسي أو الديني أو الفكري، وفي كلّ المرات التي طلبني فيها أحد الباحثين للحديث حول هذه المساحات، كنت في نهاية كلّ لقاء أطرح عليهم السؤال التالي: "لماذا تهملون التأثيرات الاجتماعية؟". وهذا ليس تقليلاً من حجم التأثيرات الأخرى، لكن قناعة منّي بخطر التأثيرات والتغيّرات الاجتماعية التي تداهم الناس، وأنّها ربّما تكون أشدّ خطراً من الأمور الأخرى.
المنفى، حتى وإن كان اختيارياً عند البعض أحيانا، لكن في صلبه هو فعل إجباري، لأنك إن بقيت في بلدك ولم تستطع أن تكتم صوتك، فأنت بين مصيرين هما السجن أو السجن. مرّة، كتب شقيقي عبد الله: "في بلادنا يقولون إنّ كل مواطن هو سجين محتمل، لا يتعلّق الأمر فقط بأن يكون سجانك يحمل على كتفيه عددًا من النجوم، قد تكون روحك سجينة قد تكون أنت سجانك وجلادك! السجن لا يصنع أبطالا".
يصدمك واقع المنفى، وتكتشف أنّك لم تكن تهتم بالشكل الكافي بالوقوف على أرض صلبة، لأنك كنت تمشي سريعاً، وعندما وقفت اكتشفت هشاشة ما كنت تمشي عليه!
تختار الرحيل لتنقذ حريتك، في محاولة منك للنجاة من ملاحقة أجهزة الأمن المختلفة. ثمّ بعد رحيلك يُنزع منك حق العودة إلى وطنك وأهلك ومراتع صباك، طالما بقيت أسباب الرحيل. وأوطاننا جميعها مرهونة في هذه الأسباب الممتدّة منذ عشر سنوات على الأقل.
تمرّ السنوات الأولى في محاولات ملاحقة الحياة، أنت ومن نجوت بهم ومعهم، ثمّ تُفاجأ بعد فتور حماسة البدايات، بأنّك تخسر، لأنك لم تفكر جيّداً في أبعاد التأثير الاجتماعي. انتقلت من بلد إلى بلد، ومن ثقافة إلى ثقافة، ومن لغة إلى لغة، ومن طقس إلى طقس، واستهنت بكلّ ذلك، ثم ومع تسارع الحياة تنسى أن تأخذ نفساً لتفكّر في تأثيرات هذا كلّه على نفسك، وعلى من حولك. يصدمك الواقع، وتكتشف أنّك لم تكن تهتم بالشكل الكافي بالوقوف على أرض صلبة، لأنك كنت تمشي سريعاً، وعندما وقفت اكتشفت هشاشة ما كنت تمشي عليه!
سألتني صغيرتي ذات مرّة، بابا: "أنا ليه معنديش جدو، تيتا، عم، عمة، خال، خالة؟". على قدر ألم السؤال، واعتقادك أنّك لن تستطيع شرح ما يكفي لتعطي إجابة مقنعة لطفلتك، تكتفي بالصمت، أو بإجابة مطاطية لا تسمن ولا تغني من جوع: "إن شاء الله نعرف نشوفهم قريباً"، ثم تمضي السنون، وهذا الـ"قريباً" لا يجيء، ثم تنتقل من بلد لآخر، وتكبر الصغيرة، وأنت لم تجبها، لتُفاجأ منها بأسئلة أخرى، من عينة: "أنا امتى هعرف أنزل مصر؟"، أو جملة مثل: "أنا حياتي اتغيّرت من وقت ما جيت هنا".. وأنت ليس لديك إلا الصمت أو الإجابات الفضفاضة. قس هذا كلّه، على كلّ أهلنا وشعبنا من كلّ بلداننا التي تقبع تحت الديكتاتوريات، مع اختلاف السياقات والأسئلة، لكن تبقى روح الأزمة واحدة.
في المنافي تفكّك الكثير من الأسر، وانفصل عشرات المحبين، وقيّد الناس أنفسهم في سجونهم الداخلية، ناهيك بفقد الأرواح
تكتشف أيضاً اتساع الفجوات بينك وبين من معك، تصارع أنت من أجل البقاء ويصارعون هم وحدتهم وما فقدوه، ثم بعد فترة ينصدم الجميع بالنتائج. كم الخيبات التي سمعتها أو قرأت عنها، في السنوات العشر الماضية، وخاصة آخر ثلاثة أعوام، جديرة بأن تُبحث بشكل جيد، وأن تُجرى الدراسات على هذه التأثيرات. تفكّك الكثير من الأسر، وانفصل عشرات المحبين، وقيّد الناس أنفسهم في سجونهم الداخلية، ناهيك بفقد الأرواح، أو من لم يستطيعوا التأقلم، أو تحمّل الحياة.
يُصاب الكثيرون بالصمت وهم يبحثون عن إجابة لسؤال: "هل ما حدث كان يستحق؟"، وإذا حاولوا إعطاء إجابات، وإن بدت مرتبكة، يعيدهم إلى الواقع، سؤال: "وماذا كان البديل؟".
يهتم أغلب الفاعلين في المنافي بالسياسة والمقاومة، على حساب الأوضاع الاجتماعية. ينشئون الجمعيات والأحزاب من أجل استمرار معركتهم مع السلطة التي كانت سبباً في نفيهم، ويتناسون للأسف أن يعطوا بعضاً من مجهوداتهم إلى مجتمعهم الصغير الذي نجوا به ومعه.
حياة المنافي تحتاج إلى حياة وتوازن، حتى يتوقف نزيف الخسارات المستمر، تحتاج إلى جمعيات نفسية واجتماعية قبل السياسية. فهل يدرك الفاعلون أهمية ذلك؟