حين سألت عادل إمام عن صديقه عبد الحليم (1 من 3)

15 ديسمبر 2020
+ الخط -

في مطلع شهر مارس 1998، وبعد أيام من إغلاق صحيفة (الدستور)، حصلت على فرصة عمل في ورشة الإعداد التابعة لقنوات راديو وتلفزيون العرب ART، بدعوة كريمة من المهندس أسامة الشيخ. كان الصحفي الكبير لويس جريس يشرف على عمل الورشة، وكان من أوائل ما تم تكليفنا به أنا والصديق العزيز هشام يحيى أن نقوم بإعداد حلقة خاصة من برنامج (سهراية) الذي كانت تقدمه الفنانة صفاء أبو السعود، والتي كانت قد اعتزلت التمثيل والغناء منذ تزوجت الشيخ صالح عبد الله كامل، الذي كان يقوم بأنشطة استثمارية عديدة في مصر، من بينها قنوات الـART.

وبرغم ضيق الوقت قمنا بالاتفاق مع أسماء كثيرة مهمة لكي تشارك في الحلقة الخاصة التي كانت ستذاع على الهواء في الذكرى الحادية والعشرين لرحيل عبد الحليم حافظ ـ توفي 30 مارس 1977، واعتبرنا أن تلك الحلقة ستكون فرصة لإثبات كفاءتنا التي كان المهندس أسامة الشيخ يراهن عليها، خاصة أن بعض أصحاب القرار في المكان لم يكونوا معجبين باستقدام صحفيين مطاريد من صحيفة أغلقتها الحكومة.

قبل أيام من الحلقة التي كانت ستذاع على الهواء، سرحت بخيالي وقررت أن أعرض على الفنان الكبير عادل إمام المشاركة في الحلقة، لأنه خلال فترة صداقتنا التي كانت وقتها قد دخلت عامها الثاني، كان قد حدثني عن بعض ذكرياته الجميلة مع عبد الحليم حافظ، وتصورت أنه سيتحمس للمشاركة في الحلقة باتصال هاتفي، وكان ذلك سقف طموحي وقتها، لأنني عاصرت رفضه للكثير من العروض التي كانت تطلب منه إجراء حوارات تلفزيونية، وكان يعرض عليه في بعضها أرقام فلكية، وكان من بين العروض التي رفضها عرض من قنوات الـART نفسها، حملته له من قبل الفنانة صفاء أبو السعود التي شاركته في بطولة العديد من أفلام الهلس العظيم في السبعينات، لكنني اعتبرت أنني لن أخسر شيئاً لو عرضت عليه ورفض، حتى أنني قررت أن أبلغه العرض في اتصال هاتفي، لكي يخف أثر الكسفة عن بعد، وبالطبع لم أكن قد أخبرت أحداً في ورشة الإعداد أو في القناة أنني سأعرض عليه المشاركة لكيلا يسخروا من حسن نيتي أو سذاجتي.

قبل أيام من الحلقة التي كانت ستذاع على الهواء، سرحت بخيالي وقررت أن أعرض على الفنان الكبير عادل إمام المشاركة في الحلقة، لأنه خلال فترة صداقتنا التي كانت وقتها قد دخلت عامها الثاني، كان قد حدثني عن بعض ذكرياته الجميلة مع عبد الحليم حافظ، وتصورت أنه سيتحمس للمشاركة في الحلقة باتصال هاتفي، وكان ذلك سقف طموحي وقتها، لأنني عاصرت رفضه للكثير من العروض التي كانت تطلب منه إجراء حوارات تلفزيونية، وكان يعرض عليه في بعضها أرقام فلكية

فاجأني الأستاذ عادل بموافقته على المشاركة في البرنامج فور أن عرضت عليه ذلك، بل وقال إنه لن يشارك باتصال هاتفي، وأنه يوافق على تصوير لقاء قصير يذاع في البرنامج، وقبل أن أفيق من نشوة المفاجأة وأتمكن من تجميع كلمات تناسب امتناني وشكري له، قال لي إن لديه شرطاً واحداً للموافقة على التصوير، ففرملت فرحتي وأدركت أنه سيطلب رقماً فلكياً لن توافق عليه القناة، لكنه أذهلني حين قال إن شرطه الوحيد هو أن يتم التصوير معي أنا فقط، وحين بدأت أتهته وأوشكت على أن أنهنه، قال لي إنه طبعاً يحب أن يتحدث عن عبد الحليم حبيبه وصديقه، لكنه يريد أن يكون ذلك اللقاء سبباً في تثبيتي في القناة، لأنه كان متألماً للغاية من المصير الذي تعرضت له بعد إغلاق (الدستور)، ومع أنني كنت قد بدأت الكتابة في مجلة (صباح الخير) تحت رئاسة الأستاذ رؤوف توفيق، وفي مجلة (الكواكب) تحت رئاسة الأستاذ رجاء النقاش، إلا أن الأستاذ عادل اعتبر بمنتهى الجدعنة والجمال الإنساني أن عملي في قناة فنية، مثل قناة الأفلام التابعة لـART، سيكون أفضل بالنسبة لي كشاب يحلم بالكتابة للسينما، خصوصاً أنني كنت أعمل تحت رئاسة أسماء مثل لويس جريس وعلي بدرخان وإبراهيم الموجي، السيناريست الذي كتب له عدداً من أفلامه الجميلة مثل (المشبوه) و(حب في الزنزانة) و(النمر والأنثى)، وأزعم أنني أحسنت استغلال الفرصة التي جمعتني بالأستاذين علي بدرخان وإبراهيم الموجي، وتعلمت منهما الكثير.

قبل أن ألتقط أنفاسي وأستوعب المفاجأة المدوية، عاجلني الأستاذ عادل إمام بمفاجأة جديدة حين قال إنه يصر على أن يكون حواره معي أمام الكاميرا، ولا أوجه له الأسئلة من خلفها، وأنه لو تمت الموافقة على ذلك، لن يتقاضى أي مقابل لإجراء الحوار، ولكي يرتاح من محاولاتي الفاشلة للتعبير عن امتناني ومحبتي، طلب مني إنهاء المكالمة لأنه يتلقى اتصالاً آخر على المحمول، وقال إنه سينتظر اتصالي في الغد لتحديد موعد التصوير بعد أن أبلغه موافقة القناة بشكل واضح على ما طلبه.

انهرت في البكاء بعد أن انتهت المكالمة، وسجدت لله شكراً على تلك الفرصة السعيدة، مغالباً وسوسة الشيطان الذي كان معذوراً حين قال لي إن ما سمعته كان الفصل الأول من مقلب يحضّره لي عادل إمام، سيكون فصله الثاني في الغد حين أتصل به لإبلاغه بموعد التصوير، لكنني تذكرت ما كنت أسمعه منه عن انتهاء علاقته بالمقالب التي كان يحبها في أيام شبابه، واستعذت بالله من النفس الأمّارة بالنكد، وشكرته لأنه ألهمني أن أبلغ عرضي للأستاذ عادل هاتفياً بدلاً من إبلاغه وجهاً لوجه، لكيلا يُغمى علي في كافتيريا (بنت السلطان) الكائنة أسفل منزله، والتي كنت ألتقيه فيها وقتها كل يوم تقريباً بعد أن ينتهي عمله في المسرح لنسهر حتى مطلع الفجر، أو لكيلا أهجم عليه لأحتضنه فيفهم أفراد حراسته القريبين من مجلسنا هجومي عليه خطئاً، ولأن الدنيا غرورة والنفس طماعة، فقد وجدتني أفكر في الشروط التي سأمليها على إدارة القناة قبل إتمام التصوير، لكي يتم تثبيتي وضمان مستقبلي التلفزيوني حتى أزهق من العمل في القناة وأطلب مغادرتها.

لم أستغرب بالطبع حين ظن رؤسائي في القناة أنني أمزح أو أعيش وهماً سرعان ما سيتبدد، وكانت "مدام صفاء" كما كنا نناديها أكثر صدقاً في التعبير عن دهشتها مما قلته، مستعيدة ما سبق أن قاله لها حين رفض الاشتراك معها في حوار طويل عن مشواره، مع أنها عرضت عليه رقماً فلكياً، قائلاً لها إنه لا يحب الظهور في البرامج، ويعتبرها معطلة له عن عمله كممثل، وهو ما كان يقوله في ذلك الوقت لكثير من الذين يعرضون عليه الاشتراك في برامج تلفزيونية، واتضح أن مدام صفاء توافق شيطاني في رأيه أنني ضحية مقلب يقوم به عادل إمام، وأنه سيستلقي على قفاه من الضحك حين تتصل به وتخبره بما سمعته مني، ومع أن أحد الزملاء نبهها إلى أن عادل إمام كان قد حضر في سبتمبر الماضي ـ 1997 ـ عيد ميلادي الذي أقمته في مقر صحيفة (الدستور) المتواضع، وهو ما لم يكن قد فعله من قبل مع صحفيين وكتاب أقرب إليه مني وأقدم صلة، لكنها أصرت ـ وهذا حقها ـ أن تتصل بالأستاذ عادل لكي تتأكد، وبالطبع لم أحضر تلك المكالمة، لكنني سمعت تفاصيلها من الأستاذ عادل الذي وصف لي ضاحكاً دهشة ولخبطة صفاء أبو السعود مما قاله لها عن إصراره على أن أكون محاوره أمام الكاميرا، وأن ذلك سيكون شرطه الوحيد للمشاركة، وأنه سيفعله دون مقابل، وأنها سألته عما إذا كان بيني وبينه صلة قرابة لم تكن قد سمعت عنها.

لم أستغرب بالطبع حين ظن رؤسائي في القناة أنني أمزح أو أعيش وهماً سرعان ما سيتبدد، وكانت "مدام صفاء" كما كنا نناديها أكثر صدقاً في التعبير عن دهشتها مما قلته، مستعيدة ما سبق أن قاله لها حين رفض الاشتراك معها في حوار طويل عن مشواره، مع أنها عرضت عليه رقماً فلكياً، قائلاً لها إنه لا يحب الظهور في البرامج، ويعتبرها معطلة له عن عمله كممثل

لم يكن يخطر على بالي وقتها أنني سأكون يوماً ما مذيعاً تلفزيونياً بأي شكل، فما بالك بأن أكون مذيعاً يحاور عادل إمام، وكنت واثقاً أن ذلك اللقاء سيكون الأول والأخير لي كمذيع، هذا إن تم، ولم أولع بجاز قبلها أو تنزل عليّ صاعقة من السماء، لكنني قررت أن أكون على قدر الفرصة التي ساقها الله تعالى لي، فلا أكتفي في أسئلتي بالإشارة إلى تفاصيل الصداقة التي جمعت بين عادل إمام وعبد الحليم حافظ، بل وأتخذ من الحوار فرصة للإشارة إلى قضايا تخص عادل إمام نفسه وتثار عنه، مثل علاقة الفنان بالسلطة والحديث المتكرر عن نهاية نجوميته، خاصة أن عادل إمام كان يواجه وقت إجراء الحوار حملات صحفية شرسة تتحدث عن قيام من أطلقت عليهم الصحافة لقب (المضحكون الجدد) بإنهاء نجوميته التي استمرت ثلاثة عقود، وبعد أن اطمأن قلبي إلى جودة الأسئلة التي ستعطي للحوار معنى يتجاوز فكرة الاحتفال بعبد الحليم، عاد قلبي للقلق حين تذكرت مشكلة أكبر، وهي أنني لا أمتلك ملابس تليق بمذيع تلفزيوني يسجل حواره الأول مع ضيف بحجم عادل إمام.

كان الأستاذ عادل قد حاول إقناعي من قبل بضرورة شراء "بدلتين شيك وكام كرافتة"، لأستخدمها في حضور المناسبات الرسمية والحفلات التي كان يدعوني لبعضها، خاصة أنني حين حضرت في عام 1997 حفلة التكريم التي أقيمت له في منزل السفير المغربي بالقاهرة، بعد حصوله على وسام رفيع من الملك المغربي الحسن الثاني، كنت قد ارتديت قميصاً مشجراً لو شاهده الملك الحسن الثاني لقام بسحب الوسام من الأستاذ عادل، لأنه يعرف شخصاً يرتدي مثل ذلك القميص المربك في فكرته وتنفيذه وخاماته، وهو ما بدا جلياً من نظرات الجميع، بدءاً من أفراد حراسة منزل السفير الذين استغربوا سؤالي عن الدور الذي يقع فيه منزل السفير في تلك العمارة المطلة على نيل جاردن سيتي، ولولا أنني وصلت إلى المكان مع مجيئ الأستاذ عادل إلى المكان، لقاموا في أحسن الأحوال بمنعي من الدخول، إن لم يسلموني إلى حراسة السفارة الأميركية القريبة من العمارة، ولن أنسى أبداً كيف مد الأستاذ عادل يده لأدخل معه إلى المصعد ثم إلى الحفلة، وكيف أصر بعد انتهاء مراسم التكريم على أن أجلس معه على نفس المائدة التي أقيمت له في بلكونة منزل السفير، والتي ضمّت معي كلاً من أساتذتي وأحبابي صلاح السعدني وسعيد صالح ومصطفى متولي وفاروق الفيشاوي، بالإضافة إلى صديقه العزيز الدكتور سمير سرحان، رئيس هيئة الكتاب، وشخص مهيب عرفت فيما بعد أنه مستشار الملك المغربي الذي جاء خصيصاً لحضور الحفلة، وقد حكيت في إحدى حلقات برنامج (الموهوبون في الأرض) ما شهدته في تلك الجلسة بالتحديد من لقاء عاصف بين الأستاذ عادل إمام والكاتب الكبير عادل حمودة، الذي كان قبلها بعامين رئيساً لي في مجلة (روز اليوسف).

ما قلته من قبل للأستاذ عادل في موضوع البدلة والكرافتة، قلته من جديد لأصدقائي الذين كانوا يعلمون تفاصيل حالتي المالية المتردية، خاصة أننا لم نكن قد قبضنا مليماً من القناة، ولم نتفق على أجورنا أصلاً، ولذلك عرضوا تسليفي الذي فيه النصيب لكي أشتري بدلة وكرافتة، خاصة أن الأستاذ عادل كان قد نصحني ذات مرة بالتردد على محل (حامد عبد الخالق) للبدل الجاهزة الكائن في شارع البطل احمد عبد العزيز بالمهندسين، وقال لي إنني سأجد لديه بدلاً شيك بأسعار معقولة، وأنه كان أيام الضنك يتعامل معه قبل أن يشتهر صاحب المحل ويصبح لديه محلات متعددة، لكنني قلت له إن رفض البدل بالنسبة لي مسألة مبدأ، وأنني أفضل أن أكون على راحتي وآكل ما يعجبني وألبس ما يعجبني، في مخالفة للمثل الشعبي الشهير، فلم يفتح معي الموضوع ثانية، ولم يتوقف أيضاً عن دعوتي إلى مناسبات وحفلات أسبب له فيها الإحراج بما أرتديه من قمصان مشجرة.

مع ذلك لم يكن من الحكمة أن أرتدي واحداً من تلك القمصان المشجرة، في حوار قررت الـART أن تذيعه على قناتها المفتوحة لكي يساهم في الترويج لقناة الأفلام التي لم تكن وقتها قد أصبحت قناتين، لكنني لم أستسلم لرغبات ومناشدات الأصدقاء، وقررت أن أجري الحوار مرتدياً قميصاً من الكتان زيتي اللون، كنت قد اشتريته من محل في وسط البلد، كان الوحيد المتخصص في بيع ملابس المقاسات الكبيرة، ربما كان اسمه (ونّان)، لا أذكر، لكنني أذكر أنه كان يقع في شارع عبد الخالق ثروت قريباً من نادي القضاة، وأنني التقيت فيه لأول مرة بالصديق الغالي علاء ولي الدين، قبل أن تجمعنا بعد ذلك محلات أفضل للمقاسات الكبيرة كان ينصحني بها من حين لآخر.

قرر الأستاذ عادل أن نجري الحوار معه في مكتبه الذي كان يقع في نفس العمارة التي كان أيضاً يسكن إحدى شققها في ميدان الثورة بجوار نادي الصيد، ولاحظت منذ أن دخلت إلى المكتب أنه قرر أن يتعامل معي بوصفي المذيع القادم لإجراء الحوار، ويناديني بـ"أستاذ بلال"، مع أنه خطف نظرة ذات مغزى إلى القميص الذي لم يكن ماشياً مع البنطلون، ولم تكن الجزمة ماشية معهما ولا مع أي شيء، وإن كان قد قال لي فيما بعد إنه احترم إصراري على دور "المذيع البوهيمي الذي يفعل ما يحلو له"، وهو ما أكد له أنه لم يكن مخطئاً حين قرر الانحياز لي في تلك اللفتة التي لن أنساها ما حييت، وإن كان قد اعتبر أنني نسيتها فيما بعد، حين كتبت ما لم يعجبه عن أحد أفلامه، ولذلك قصة أخرى أرويها في وقت لاحق.

....

نكمل غداً بإذن الله

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.