حوار وطني
عبد الحفيظ العمري
في المقهى العتيق، كان الصديقان على إحدى طاولاته يتحدثان.
يخبط الجالس جهة نافذة المقهى على سطح الطاولة أمامه، وهو يقول منفعلاً:
- أوووف يا صديقي، بطونهم لا تشبع...
يقاطعه صديقه ببرود: مَنْ هؤلاء؟
يرد الأول، ملوحاً بيده: أولادي وأمهم، أنا أيش أشرح من الصبح؟
ثم يميل نحوه، ويردف بصوت خفيض: كل شهر أحتاج كيس طحين، يلله يكفيهم.
- يا صديقي، تتحدث عنهم كأنك لا تأكل معهم!!
يبتسم بغيظ، وهو يقول: أنا؟! يا راجل...، أنا لا أرى البيت إلا في الليل؛ طول اليوم خارجه، من الصبح للظهر في العمل، وبعد الظهر متسكع عند أصحابي حتى الليل.
ثم يردف: وأي عمل؟ بيعطوني عليه ملاليم تذوب كالملح.
- أحمد الله، عاد معك عمل، غيرك ما حصّل!
يلوح بيده صارخاً: هذا عمل بذمتك؟
عمل أجره ما يكفيش عشرة أيام، أنا كل شهر أتسلّف من راتب الشهر الجاي.
- المهم، عاد في دخل تمشّي به نفسك.
يهدأ الأول متمتماً: بعدك، ما هو أنت دلال المصايب.
يلتفت الثاني إليه بحدة: دلال المصايب؟ هذا جزائي أني سعيت لك لتحصل على هذا العمل.
فيربت الأول على كتفه، وهو يقول: خلاص لا تزعل، شكراً لك..
ثم ينفخ في سيجارته التي كان قد نساها في يده، قائلاً: يا صاحبي، العيشة صارت صعبة؛ الواحد يلاقيها منين أو منين؟ من المصاريف التي لا تنتهي، ولا من الأسعار التي لا تقف عند حد، كل يوم ومعنا سعر جديد، ولا من...
يقاطعه الثاني مكملاً: ولا من البلاد التي لا تدري رايحة إلى فين... خلاص سمعت هذي الأسطوانة مئات المرات، هو ما فيش معك غير الشكا؟
- أيوه، الشكا، هو ما معنى إلا الشكا، معك حل آخر؟
- الناس كلها بتشكي، بس أيضاً بتدبّر نفسها، الشكا لوحده لا ينفع.
- تمام، كيف الناس تدبّر نفسها؟ ها أنا ذا أمامك، كيف أدبّر نفسي؟
- أنا مش عارف، شوف كيف تعمل الناس وسوي مثلهم.
- مثلهم؟ مثل منْ؟ أو تقصد صاحبنا (محمود) اللي صار مع جماعة فلان، وصار يهبر بالملايين، الله غني عن هذي الطريق، وإلا (سالم) اللي بدّل كل أفكاره وصار واعظ القوم بعد ما كان اللي أنت عارف، وإلا...
يقاطعه الثاني، منفعلاً: بس.. باااااس، أنت ما معك إلا محمود وسالم والنماذج المتقلبة، يا أخي، في مليون طريقة وطريقة لتصلّح وضعك.
يطفئ الأول سيجارته في المنفضة أمامه، ثم يسند ظهره إلى الكرسي، وهو يقول: وضعي من وضع البلد، يوم ما تصلح البلد سيصلح وضعي.
يبتسم صاحبه بمرارة: إذن لن يصلح وضعك أبداً... ثم يشيح بوجهه جانباً.
يحتد الأول: فال الله ولا فالك، هذي البلاد تمرض، تشيخ، لكنها لا تموت، ستصلح ذات يوم.
يلتفت إليه صاحبه، وهو يقول بنبرة ساخرة: واللهِ؟
ثم يردف: هذا اللي قعدنا نقوله لعقود، تمرض.. تشيخ.. لكنها لا تموت، أهي ماتت، وصارت رمة يا شيخ!
ثم يمسك بيد صاحبه، وهو يتابع بحدة: قل لي بالله عليك، هذا اللي أحنا عايشنه، إذا لم يكن الموت، فماذا تسميه؟
يرد الأول: كل الدول تمر بهذه المراحل، وبعدين هذا كله مش بسببنا، أحنا...
يقاطعه الثاني محتداً: مش بسببنا؟ ها.. بسبب مَنْ؟
أها.. أيوه، السياسيون هم السبب؟ أليس هذا ما تريد قوله؟
الأول في خفوت: أيوه.
يتابع الثاني بنفس نبرته المحتدة: هو هذا الذي نحن نحسن فعله، رمي أخطائنا على الآخرين.
ثم يميل نحو صاحبه، وينظر في عينيه مباشرة، ويقول: هؤلاء السياسيون من أين جاءوا؟ لا أظنهم جاءوا من كوكب المريخ، إنهم، يا حضرة المثقف، من الشعب الذي قعدت أنت وأمثالك تنظّر له، وتقول عنه إنه من أمة لا تموت، قد تضعف ... بلا.. بلا.. بلا.. إلى آخر هذا الهراء.
الساسة جاءوا من أمتنا هذه، الأمة الميتة منذ زمن، وأنت وأنا وأمثالنا، لم نرَ هذا الموت، لهذا كان ساستنا ميتي القلوب، بلا أي إحساس نحو أمتهم ولا شعوب أمتهم العريقة (يبتسم عند هذه اللفظة)، فلا نستغرب إذا أصبحوا لا يبالون بأي شيء فيها، فكانت النتيجة ما وصلت إليه أحوالنا يا صاح.
تسود دقيقة صمت.
يهم الأول بالحديث، فيقاطعه صديقه بإشارة من يده: انتهينا، لا فائدة من الحديث، لن نصلح الكون بجدالنا هنا.
يقوم الأول من على كرسيه، وهو يوجه سبابته إلى صاحبه قائلاً: هكذا أنت، تحمّل المسؤولية غير أهلها، ولا تقبل غير رأيك.. عن أذنك.
ويمضي خارجاً، فيمسك الثاني بكتفه، وهو يقول: انتظر، سنخرج معاً.
يمضيان خارج المقهى، والثاني يتمتم، وهو لا يزال ممسكاً بكف صاحبه: يا صاحبي، أنا رديت عليك هكذا، أريد أوضح لك أنه ما دامت الدنيا قد أصبحت خربانة.. فلنجاريها كما هي، وبلاش شكا.
ثم يوكز صاحبه في بطنه، ويقول ممازحاً: ماذا كنت تقول، بطونهم لا تشبع، بطونهم أم بطنك؟
يبتسم الأول: أيوه، بطونهم.. كأنها بئر بلا قرار.
يرد عليه الثاني ضاحكاً: بكرة تستخرج منها بترول!
يقهقه الأول قائلاً: وأنت الصادق، سأستخرج (...)!
***