حوار مع صديقتي الألمانية: نرفض أن نكون أعداءً

15 نوفمبر 2023
+ الخط -

مقدمة المحرّر: يشكّل الموقف الألماني من الصراع العربي/ الفلسطيني الإسرائيلي مسألة غير مفهومة وإشكالية للكثيرين في العالم العربي، نظراً لخصوصية التاريخ الألماني فيما يتعلّق بما قام به الحكم النازي ضد اليهود من محارق بشعة، مضافة إليها الترتيبات والسياسات الألمانية اللاحقة بعد سقوط النازية في محاولة للتكفير عن هذا الماضي. في هذا الحوار، والذي سيُنشر على شكل سلسلة بين الدكتور حسام الدين درويش والناشطة الألمانية كورنيليا زِنغ، يطرح كلاهما وجهةَ نظره، بحثاً عن نقاط التقاطع، وفي محاولة جازمة وحازمة لرفض الصور النمطية عن الآخر، وتقبّل الاختلاف، والأهم محاولة الفهم بشكل عميق وحقيقي.

كورنيليا زِنغ "Cornelia Seng" لاهوتيةٌ وقسيسةٌ ألمانية والمؤسّسة الأبرز والمنسقة العامة السابقة لمبادرة "أهلًا بكم في فِرمِلسكيرشِن"، المجسِّدة لثقافة الترحيب باللاجئين في ألمانيا. وهي حاليًّا عضوةٌ نشطةٌ في منظمة "جدّات ضد اليمين" في مدينة كاسل الألمانية. وقد جرى هذا الحوار بيننا، باللغتين الإنكليزية والألمانية، وقامت هي بترجمته لنشره باللغة الألمانية، وقمت أنا بترجمته لنشره باللغة العربية.

كورنيليا زِنغ: أنا منهكةٌ، مصدومةٌ، مشوّشةٌ، وبالكاد أجد الكلمات، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل، وإرهاب حماس المروّع ضد الناس في إسرائيل. لم يكن هذا اعتداءً أو هجومًا من دولة على جيش دولةٍ أخرى. كان ذلك ليكون سيئًا بما فيه الكفاية. لا، لقد كانت مذبحةً وحشيةً للأطفال والنساء والأشخاص الذين كانوا يعيشون حياتهم الطبيعية، يحتفلون. مذبحةٌ لا مثيل لها في قسوتها. وقام الجناة بالتقاط الصور ومقاطع الفيديو لها. من يفعل شيئًا من هذا القبيل؟

التجرُّد من الإنسانية يخيفني. وحشية العنف تركتني عاجزةً عن الكلام. وحملت شبكات التواصل الاجتماعي صورًا للأعمال الوحشية في جميع أنحاء العالم. وفي مدننا، في شوارعنا، احتفل الناس أيضًا بهذه الأعمال الوحشية. يشعر اليهود بأنهم يتعرضون للهجوم هنا في ألمانيا أيضًا. وبحسب ما ورد، ارتفع عدد الهجمات المعادية للسامية ارتفاعًا كبيرًا. وهذا يخيفني أيضًا.

قال لي أحدهم: "لا يمكنك التحدث مع الفلسطينيين". حسام عربيٌّ سوريٌّ، وله وجهة نظره الخاصة في الأمور. نحن نحاول التحدّث، على الرغم من كلّ شيء. نحاول بحذرٍ. حسام يخشى أن يمس "المحرم/ التابو الألماني" - كما يسميه - فيؤذيني. وأخشى أن أتحدث، فجأةً، عن "المسلمين"، وأن أضعهم جميعًا في سلةٍ واحدةٍ.

كورنيليا زِنغ: نجد أنفسنا الآن على طرفي نقيضٍ. نريد أن نحاول فهم بعضنا البعض، من دون الحاجة إلى أن يقنع كلٌّ منّا الآخر، وأن نستمع إلى بعضنا البعض، من دون أن يحكم أحدنا على الآخر

ولكنّنا على يقين من أنّنا نتقاسم الرؤية ذاتها. عندما كنّا نعمل في مبادرة اللاجئين "مرحبًا بكم في فيرميلسكيرشن"، كنّا قادرين على الثقة بعضنا ببعض "بشكلٍ أعمى" تقريبًا. وكلانا يتشاطر الرؤية القائلة بأنّ الناس المختلفين يمكنهم العيش معًا في سلامٍ، على أساس حقوق الإنسان والقانون الدولي. "كرامة الإنسان لا تمس" [كما تقول المادة الأولى من الدستور الألماني]. ومع ذلك نجد أنفسنا الآن على طرفي نقيضٍ. نريد أن نحاول فهم بعضنا البعض، من دون الحاجة إلى أن يقنع كلٌّ منّا الآخر، وأن نستمع إلى بعضنا البعض، من دون أن يحكم أحدنا على الآخر. هل سننجح؟

حسام الدين درويش: بوصفي إنسانًا، قبل أن أكون عربيًّا أو سوريًّا، ومع كوني كذلك، أو بغض النظر عنه، دعيني، في البداية، أشاركك حزنك وصدمتك على كلّ الضحايا الأبرياء، من الإسرائيليين، ومن الفلسطينيين أيضًا. ودعيني أيضًا أعبّر عن إدانتي لأيّ اعتداءٍ على الأبرياء، ولأيّ جهةٍ تقوم بمثل هذا الاعتداء، سواء أكانت حماس أو إسرائيل أو أيّ جهةٍ أخرى.

الصورة
كورنيليا زِنغ وحسام الدين درويش
(الناشطة الألمانية كورنيليا زِنغ والمفكر الباحث حسام الدين درويش)

أنت تلاحظين بالتأكيد أنّه على الرغم من أنّني حاولت التعبير عن اتفاقي معك، فإنّ ثمة اختلافًا واضحًا بين موقفينا. أنت تتحدثين عن ضحايا طرفٍ واحدٍ، هم الإسرائيليون، وعن إرهابيين أو مجرمين من طرفٍ واحدٍ، هم الفلسطينيون أو العرب أو الإسلاميون... إلخ؛ في حين أنّني أتحدث عن أبرياء وإرهابيين أو مجرمين من "الطرفين". وفي اعتقادي، هنا يكمن لبّ المشكلة المتمثلة في الموقف الألماني الأحادي من الصراع الحاصل بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين عمومًا، ومما حصل في السابع من أكتوبر، وبعده، خصوصًا. وأودّ أن أشدّد على أنّ حديثي عن الموقف الألماني المذكور، أو عن الألمان، في سياقاتٍ أخرى من هذا الحوار، لا يشمل كلّ الألمان، وإنّما يشمل فقط الموقف الألماني الرسمي وموقف الألمان المؤيدين له عمومًا. فأنا آمل وأعرف أنّ هناك ألمانًا كثيرين يفكرون ويتصرفون بطريقةٍ أقل سوءًا، أو أكثر موضوعيةً وإنصافًا.

قبل الدخول في مناقشاتٍ في خصوص "الموقف الألماني" أو "الموقف الفلسطيني أو العربي" مما يحصل في إسرائيل وغزة منذ السابع من أكتوبر، من المهم أن نتفق على الأسس التي ينطلق منها الموقفان المذكوران.

الموقف الألماني يجعل التاريخ يبدأ وينتهي بما حدث في السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، بدون اكتراثٍ (كبيرٍ) إلى أنّ عدد الضحايا الفلسطينيين الأبرياء من الأطفال والنساء أكبر من عدد أمثالهم الإسرائيليين، ليس في السابع من أكتوبر فحسب، بل أيضًا من عدد الضحايا الإسرائيليين المدنيين في العقود الخمسة أو السبعة الماضية من الاحتلال. كما يؤكد الموقف الألماني المساند لإسرائيل الحق المطلق لإسرائيل في الدفاع عن نفسها، متجاهلًا طرافة الحديث عن حق دولةٍ محتلةٍ الدفاع عن نفسها، في مواجهة مقاومةٍ مسلحةٍ ضد هذا الاحتلال، وغير مكترثٍ بأنّ إطلاقية هذا الحل تعني وتتضمن، عمليًّا على الأقل، ارتكاب جرائم، وصفتها منظماتٌ حقوقيةٌ وأمميةٌ كثيرةٌ، غير عربيةٍ، أنّها (قد) ترقى إلى أن تكون جرائم حربٍ وجرائم ضد الإنسانية وجرائم تطهيرٍ عرقيٍّ. وإضافةً إلى القصف والقتل والتشريد، يمكن الإشارة إلى جرائم قطع الماء والكهرباء والوقود والمواد الغذائية والطبية... إلخ عن أكثر من مليوني شخصٍ نصفهم تقريبًا من الأطفال.

حسام الدين درويش: الموقف الألماني يجعل التاريخ يبدأ وينتهي بما حدث في السابع من أكتوبر، بدون اكتراثٍ (كبيرٍ) إلى أن عدد الضحايا الفلسطينيين الأبرياء من الأطفال والنساء أكبر من عدد أمثالهم الإسرائيليين

من المؤكد أنّ هذا الموقف الألماني الأحادي ليس قائمًا على أيّ فهمٍ أخلاقيٍّ لمنظومة حقوق الإنسان والقانون الدولي، وإنما يتأسّس على رؤيةٍ "غربيةٍ" خاصةٍ تعطي قيمةً لحياة الإسرائيليين أكثر من حياة الفلسطينيين أو العرب أو المسلمين. كما يتأسّس على "عقدة الذنب الألمانية" تجاه اليهود. وهي العقدة التي تجعلهم يعطون الإسرائيليين حقوقًا خاصةً، حتى لو كانت على حساب حقوق وأرواح الملايين من غير الإسرائيليين. فالموقف الألماني يضع ما حدث في السابع من أكتوبر في إطار القصة الألمانية أو التاريخ الألماني مع اليهود، ويتجاهل أو يمنع أو يستنكر تمامًا تحليل سياقات ما حصل وفهمها، كما قالت الفيلسوفة (اليهودية) جوديث بتلر عن "منع التفكير" في ألمانيا، في نص مهمٍّ لها، وكما قال الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك، عن منع أو معارضة التحليل في ألمانيا، في خطابه في معرض فرانكفورت الأخير للكتاب. ما لا يريد الموقف الألماني أن يأخذه في الحسبان هو أنّ هناك تاريخًا مختلفًا وقصةً فلسطينيةً مختلفةً تمامًا مع إسرائيل. إنها قصة معاناة شعبٍ بأكمله من احتلالٍ واستعمارٍ استيطانيٍّ مستمرٍ منذ عقودٍ طويلةٍ، مع ما يرافق ذلك من قمعٍ وقتلٍ واعتقالاتٍ وقصفٍ وهدمٍ للبيوت وتجويع ...إلخ.

يأخذ الموقف الألماني على حماس أنها لا تعترف بدولة إسرائيل وتريد تدميرها، وعلى هذا الأساس، وعلى أساس "هجماتها الإرهابية"، تجرى عمليات إدانتها وحظرها في ألمانيا. لكن، أليس هذا هو ذاته موقف إسرائيل النظري والعملي من دولة فلسطين المنشودة؟ فالقرار الأممي الذي شرعن وجود دولة إسرائيل شرعن، في الوقت ذاته، وجود دولة فلسطين. لكن إسرائيل نفسها لا تقبل بمثل هذا القرار، وتقوم بعمليات قضمٍ متواصلةٍ للأراضي الفلسطينية، وترفض، تمامًا وبالمطلق، حل الدولتين. وللأسف، إنّ عمليات الاستيطان الاستعماري المستمرة جعلت إقامة الدولة الفلسطينية أقرب إلى المستحيل. ويقاربه استحالةً حل إقامة دولةٍ ديمقراطيةٍ واحدةٍ تجمع الإسرائيليين والفلسطينيين، على أساس المواطنة والمساواة بين الجميع، في إطار قوانين عادلةٍ.

في إطار هذه الأوضاع والحلول المستحيلة، ما الذي بإمكان الفلسطينيين أن يفعلوه لتحقيق أهدافهم الإنسانية المشروعة في حياةٍ كريمةٍ، في مواجهة ظلم الاحتلال الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي؟ حماس ليست كل الفلسطينيين. وهناك جهاتٌ فلسطينيةٌ أخرى (كمنظمة التحرير الفلسطينية المعترف، دوليًّا وعربيًّا، بأنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني) حاولت التفاعل مع الاحتلال الإسرائيلي بطريقةٍ سلميةٍ مختلفةٍ. فتخلّت تلك المنظمة عن الكفاح المسلح، وعقدت اتفاقيات سلامٍ مع إسرائيل تضمّنت الاعتراف بها والتعاون معها. لكن ذلك لم يجلب أي نتيجةٍ إيجابيةٍ، من ناحية قبول إسرائيل إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ وحصول الفلسطينيين على حقوقهم في هذا الخصوص. وربما تكفي الإشارة إلى أنّ إسرائيل، بجيشها ومستوطنيها، قد قتلت، منذ السابع من أكتوبر، أكثر من 150 مدنيًّا فلسطينيًّا، في الضفة الغربية، التي لا تحكمها حماس، بالإضافة طبعًا إلى قتل الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء في غزة، بدعوى محاولتها قتل أفراد حماس.

حسام الدين درويش: القرار الأممي الذي شرعن وجود دولة إسرائيل شرعن، في الوقت ذاته، وجود دولة فلسطين. لكن إسرائيل نفسها لا تقبل بمثل هذا القرار

بالفعل، أعتقد أنّ لا إمكانية ولا جدوى من الحوار مع الفلسطينيين وغير الفلسطينيين، إذا لم يتفق الطرفان، مبدئيًّا، على أنّ أساس الحوار، هنا، هو منظومة حقوق الإنسان والقوانين الدولية والحد الأدنى من الأخلاق الكونية المنصفة. وبدون الاعتراف بأنّ الاحتلال الإسرائيلي وممارساته في فلسطين يمثل مشكلةً، بل المشكلة الأساسية هناك، وبدون الإقرار الأخلاقي والسياسي، النظري والعملي، بأنّ حياة الفلسطينيين لا تقل قيمةً عن حياة الإسرائيليين، وأنّه من حق الفلسطينيين وغير الفلسطينيين إدانة هذا الاحتلال ومقاومته بكلّ الطرق التي تشرعها القوانين والمواثيق الدولية، لن تكون هناك إمكانيةٌ للحوار (الفكري) مع أيّ طرفٍ لا يقبل الاعتراف والإقرار المذكورين. وبعد هذا الإقرار والاعتراف، أو انطلاقًا منهما، يمكن بالطبع أن نقوم بإدانة أيّ فعل وحشيٍّ من حماس وغيرها، ويمكننا التعاطف مع الأبرياء الإسرائيليين وغيرهم. أما بدون ذلك، فالإدانة المذكورة لن تكون إلا مجرّد فعل سياسيٍّ أو نفسانيٍّ نابعٍ من مصالح وظروفٍ ورؤىً معينةٍ لا تكترث، فعليًّا، بحقوق الإنسان إلا عندما يكون ذلك الإنسان "من جماعتنا".

الموقف العربي الرسمي متنوّعٌ. والقسم الأبرز منه يبدو، من منظورٍ محايدٍ، متوازنًا جدًّا، بمعنىً ما. فهو موقفٌ معادٍ لحماس، ويدين حماس وهجماتها، لكنه يدين، في المقابل، المجازر الإسرائيلية، ويدعو إلى حلٍّ عادلٍ وشاملٍ للقضية الفلسطينية. وربّما ينبغي الإشارة إلى أنّ الجامعة العربية قد قدمت، منذ عام 2002، مبادرةً للسلام مع إسرائيل، قائمةً على حل الدولتين، والقرارات الدولية ذات الصلة، والاعتراف العربي والفلسطيني بإسرائيل، مع الاستعداد لإقامة علاقات طبيعية معها. لكن إسرائيل رفضتها، ورفضت حتى التفاوض في خصوصها.

أعترف أن السياق الحالي لم يسمح لي بتناول الكثير من المسائل المهمة التي وردت في كلامك، لكنّني آمل تناول تلك المسائل وغيرها في حوارنا الذي بدأ منذ فترةٍ طويلةٍ، وآمل وأتوقع أن يستمر لفترةٍ أطول مستقبلًا.

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".