حوارٌ مع صديقةٍ ألمانيةٍ: نرفض أن نكون أعداءً (4)
مقدمة المحرّر: يشكّل الموقف الألماني من الصراع العربي/ الفلسطيني الإسرائيلي مسألة غير مفهومة وإشكالية للكثيرين في العالم العربي، نظراً لخصوصية التاريخ الألماني في ما يتعلّق بما قام به الحكم النازي ضد اليهود من محارق بشعة، مضافة إليها الترتيبات والسياسات الألمانية اللاحقة بعد سقوط النازية، في محاولة للتكفير عن هذا الماضي. هنا حوار سيُنشر على شكل سلسلة بين الدكتور حسام الدين درويش والناشطة الألمانية كورنيليا زِنغ، يطرح كلاهما وجهةَ نظره، بحثاً عن نقاط التقاطع، وفي محاولة جازمة وحازمة لرفض الصور النمطية عن الآخر، وتقبّل الاختلاف، والأهم محاولة الفهم بشكل عميق وحقيقي.
كورنيليا زِنغ: أوف. لقد حُذِّرتُ، أيضًا، بشأن هذا الحوار. وعلينا أن نحاول الاستمرار في الحديث، حتى لو كان ذلك من أجل إثبات عدم صحة هذه التحذيرات. كان لدي بعض الأمل في أن تحليل الوقائع يمكن أن يقرِّب بيننا. ولكن لا يبدو أن هذا ما حصل. في هذه الأيام، لم تعد الحقائق وحدها كافيةً، للجمع بين الناس، حتى لو كانوا يسعون جاهدين للموضوعية. يعتمد الأمر على المنظور الذي تنظر منه إلى الحقائق. إن "التأطير" يتحدث بصوتٍ أعلى من الحقائق. ربما هذا هو الحال مع كل الأحداث اليوم.
بالنسبة إليّ، كان السابع من أكتوبر مذبحةً وحشيةً، وليس هجومًا مثل هجوم بوتين على أوكرانيا. (وهو ما لا أبرره بذلك!) أستطيع أن أسمعك تقول على الفور: "لا يُسمح للفلسطينيين بأن تكون لهم دولتهم الخاصة، فكيف من المفترض أن يكون لديهم جيش من الجنود الذين يخططون لهجوم عسكري؟". وعندما أقول: "إن حماس تستغل المدنيين كدرعٍ وقائي، وهي نفسها مسؤولةٌ عن العديد من الوفيات بين المدنيين، لأنها تطلق النار من مخيمات اللاجئين والمستشفيات"، فإنك تقول: "لا يمكن لحماس الحصول على منشآتٍ وثكناتٍ عسكريةٍ مناسبةٍ، وكانت إسرائيل ستدمرها على الفور". أعتقد أننا على حق في ذلك. قرأت الجملة في إحدى الصحف: "إن جعل "لكن" متزامنةً مع "في الوقت نفسه" بحاجةٍ إلى أكثر من مجرد مدينة فاضلة. وهذا ما يجب أن يكون هدف المجتمع المدني في ألمانيا". لذلك نحاول تحقيق التزامن بين "لكن" و"في الوقت نفسه". وفي الوقت نفسه، يعاني الناس في إسرائيل وفلسطين!
بالطبع أرى، أيضًا، المعاناة الكبيرة للشعب في فلسطين! وأنا، مثلك، أرى أن كل معاناةٍ إنسانيةٍ لها القيمة ذاتها! ولم يتم الوفاء بالاتفاقيات بموجب القانون الدولي المتعلقة بدولة فلسطين المستقلة. متفقة! لكنني لا أستطيع أن ألوم إسرائيل وحدها في هذا المسار التاريخي. لا أعرف من ومتى وماذا طالب أو منع كل طرف. كانت إسرائيل، في عهد إسحق رابين، مختلفةً، عما كانت عليه في عهد نتنياهو. لست متأكدةً مما إذا كان الفلسطينيون سيقبلون، حقًّا، بدولة إسرائيل، ولن "يدفعوا جميع اليهود إلى البحر"، إذا كان بإمكانهم فعل ذلك. لا أستطيع، حقًا، فهم النيّات الحقيقية للفلسطينيين واليهود، ولا أملك الثقة لإدانة أيٍّ منهما. من المرجح ألا تكون إسرائيل في ظل الحكومة اليمينية مهتمةً اليوم بإقامة دولة فلسطين. لكن لا يمكنني أن أحكم من ارتكب الأخطاء، وما الأخطاء المرتكبة، خلال السنوات الماضية، وعلى من تقع مسؤولية هذا البؤس.
هل تقصد أنني أضع حماس والفلسطينيين والعرب والمسلمين في سلةٍ واحدةٍ؟ إن المظاهرات المبتهجة التي أعقبت الهجوم الإرهابي مباشرة هنا في ألمانيا لا تسمح بأي نتيجةٍ أخرى. ولم ينفصل أي فلسطيني، ولا حتى أي مسلم، عن هذا، بوضوحٍ! إن المظاهرات في برلين وإسن (من أجل الخلافة!) لم تخفني أنا وحدي فقط. أليس صحيحًا أن كراهية إسرائيل توحد جميع المسلمين في جميع أنحاء العالم؟ وبطبيعة الحال، كثيرٌ من الناس، هنا في ألمانيا، التقوا مسلمين، ويعرفون أن المعادلة حماس = الفلسطينيين = العرب = المسلمين، ليست صحيحةً. لكننا لم نتمكن من التعرف إلى ذلك من تصريحات المسلمين (أردوغان!) بعد 7 أكتوبر.
هل تعتقد حقًّا أن حماس (مهما كانت) تناضل من أجل حقوق الإنسان؟ في هذه اللحظة، كل ما أستطيع رؤيته، أن الأمر (مع دعم إيران، وتعاطف بوتين والأسد) يتعلق بهيمنة الشرق على الغرب، وحول الخلافة. أم أنني مخطئةٌ تمامًا في ذلك؟ أنت بحثت في إمكانية تصور قيام دولة علمانية في الإسلام على أساس تمتع الجميع فيها بحقوق الإنسان، وأنا أتطلع إلى معرفة أفكارك في هذا الخصوص.
حسام الدين درويش:
قتل امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تُغتَفر
وقتل شعبٍ آمنٍ مسأَلةٌ فيها نظر
والحقُّ للقوَّةِ لا يعطاهُ الاَّ مَن ظفر
ذي حالة الدنيا فكن من شرّها عَلَى حذر
هذه الأبيات لشاعرٍ عربيٍّ اسمه أديب إسحق، ويبين فيها كيف يتبنى كثيرون معايير مزدوجةً ويتناقضون بذلك مع أنفسهم. ويشدد على أنه لا يمكن التعويل على مدى الامتلاك النظري للحق أو على أخلاقيات الآخرين، في الحصول على ذلك الحق عمليًّا، لأن المسألة مسألة قوةٍ، بالدرجة الأولى. وأرى أن مضمونها يعبّر، جزئيًّا، عن الموقف السياسي الألماني/ الإسرائيلي، من جهةٍ، وعن وضع ملايين الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال، من جهةٍ أخرى. فوفقًا للموقف الألماني الإسرائيلي، قتل 1200 إسرائيلي جريمةٌ لا تغتفر، أما قتل 21000 فلسطيني (حتى الآن فقط) فمسألةٌ فيها النظر. من ناحيةٍ أخرى، لا يكفي أن يكون للفلسطينيين، وفقًا لكل القوانين والشرائع، الأخلاقية والسياسية، الدولية، حق تقرير المصير وحق إقامة دولةٍ مستقلةٍ، وحق مقاومة الاحتلال، وحق التمتع بحياةٍ حرةٍ وكريمةٍ، لنيل هذه الحقوق، و/ أو إدانة من يمنع عنهم هذه الحقوق، بل لا بد لهم أن يملكوا القوة لفرض تلك الحقوق، وإرغام الآخرين على احترامها. هذا هو حال الدنيا، كما يقول الشاعر محقًّا، لكنني لم أتوقع أن يكون هذا هو حال من يؤمن فعلًا بمنظومة حقوق الإنسان، وحكم القانون، والمساواة الأخلاقية بين البشر، بغضّ النظر عن انتماءاتهم.
فاجأني ميلك إلى فلسفة الأمور والتعامل معها بنسبويةٍ ومنظوريةٍ، وإعلانك أن الوقائع ليست كافيةً، لأن كلًّا منا له منظوره الخاص وتأطيره المختلف إلخ، وأنك، على هذا الأساس وغيره، غير قادرةٍ على إدانة أي طرفٍ أو تحميله المسؤولية عن هذا البؤس. لن أستطيع مجاراتك في هذا التوجه الفلسفي النسبوي أو المنظوري، لأنني أعتقد أنه يمكن للناس، في مثل هذه السياقات، أن يتحدثوا من منظورٍ واحدٍ أو منظوراتٍ متقاطعةٍ، وأن يتواصلوا ويتفقوا على أسسٍ ومعاييرٍ واحدةٍ. ولهذا السبب، شددت، منذ بداية حوارنا، على أنني لن أتحدث من منظور كوني سوريًّا أو عربيًّا أو مسلمًا، بل من منظورٍ أخلاقيٍّ وسياسيٍّ إنسانيٍّ عامٍّ، يستند إلى القانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وما يتصل به من قيمٍ ومبادئ اخلاقيةٍ أساسيةٍ مثل العدل والإنصاف. وأزعم أنني قمت بتطبيق هذا المنظور على الفلسطينيين والإسرائيليين، المجرمين منهم أو الضحايا، على حدٍّ سواءٍ.
عندما تتحدثين عن جرائم إسرائيل، ترفضين وصفها بالمذبحة، وترين أن هناك سياقًا يبررها، ويجعل حماس وحدها المسؤولة عنه
في المقابل، الموقف الألماني الذي تتبنينه لم يسمح لك بفعل ذلك. وأرى أن الخلاف أو التناقض الأساسي ليس بين منظوري ومنظورك، بل داخل منظورك نفسه. فأنت ترفضين أن يكون هناك سياق يسمح بأي تبريرٍ لجرائم حماس في السابع من أكتوبر، وتجزمين بأنها مذبحةٌ وحشيةٌ، وبأن حماس وحدها المسؤولة عن كل تلك الجرائم. لكن، عندما تتحدثين عن جرائم إسرائيل، ترفضين وصفها بالمذبحة، وترين أن هناك سياقًا يبررها، ويجعل حماس وحدها المسؤولة عنها. وعند الحديث عن جرائم الجيش الإسرائيلي، ودولة إسرائيل، واحتلالها، واستيطانها، ورفضها لأي حلٍّ سياسيٍّ، وفقًا للقانون الدولي، قبل السابع من أكتوبر، بدوت، فجأة، غير قادرةٍ على الحكم، وعلى تحديد "المسؤول عن هذا البؤس". أما قبل هذا الامتناع عن الحكم، وبعده، فلم تترددي في تحميل حماس كامل المسؤولية عن كل الضحايا، ليس الذين قتلتهم فقط، بل عن كل الضحايا الذين قتلتهم إسرائيل أيضًا. على الهامش، أود أن أشير إلى أنني لا أذكر أنك أظهرتِ مطلقًا تلك النزعة النسبوية عندما كنتِ تشددين على الضرورة المطلقة لاحترام اللاجئين والمهاجرين (المسلمين) للقوانين الألمانية والدستور الألماني ومنظومة حقوق الإنسان التي تستند إليها. أما عدم امتثال إسرائيل للقوانين، واحتلالها أراضي الآخرين (ليس الأراضي الفلسطينية فحسب، بل أراضٍ سوريةٍ حاليًّا، ومصريةٍ ولبنانيةٍ وأردنيةٍ سابقًا، أيضًا) فأمرٌ خاضع للنقاش من منظوراتٍ مختلفةٍ كلها محقةٌ، من وجهة نظرك!
لا أرى أن حوارنا يتقدم، ولهذا السبب أخشى أننا ندور في حلقةٍ مفرغةٍ. كذلك أخشى أنني قد (أضطر إلى أن) أكرر الكثير من الأفكار والحجج. ولهذا السبب وغيره، سأقتصر، في ما يأتي، على التعليق المقتضب على بعض ما جاء في كلامك:
كلامك يتضمن إقرارًا بعدم امتلاكك المعرفة للحكم على الكثير من الأمور. وكنت آمل أن يسمح لك حوارنا بالحصول على بعض المعلومات التي يمكن أن تساعدك على امتلاك معرفةٍ كافيةٍ لإطلاق بعض الأحكام الأساسية المهمة. فعلى سبيل المثال، سبق لي أن ذكرت لك أن كل الدول العربية قد قدمت، بموافقة السلطة الفلسطينية، منذ عام 2002، مبادرةً للسلام مع إسرائيل، قائمةً على حل الدولتين، والقرارات الدولية ذات الصلة، والاعتراف العربي والفلسطيني بإسرائيل، مع الاستعداد لإقامة علاقات طبيعية معها. لكن إسرائيل رفضت المبادرة، ورفضت حتى التفاوض في خصوصها. فرفض إسرائيل لأي حلٍّ سياسيٍّ قائمٍ على القانون الدولي والشرعية الدولية لا يتعلق بهذه الحكومة اليمينية فقط، بل هو مستمرٌ منذ تأسيس إسرائيل، ولم تعلن أي حكومةٍ إسرائيليةٍ استعدادها لقبول دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومن غير المتوقع أن يتغير ذلك في المستقبل (المنظور).
تتحدثين عن إمكانية ألّا يقبل الفلسطينيون حقًّا بدولة إسرائيل، وأن "يدفعوا جميع اليهود إلى البحر" إذا استطاعوا، مع أن إسرائيل هي التي لا تقبل بدولة فلسطين، وتقوم بالاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وتهجيرهم وإقامة مستوطنات لإسرائيليين محلها. وحتى بعد أن أصبح عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس الشرقية مليون مستوطن تقريبًا، تقولين إنك ما زلت عاجزةً عن فهم النيات الحقيقية للإسرائيليين، وإنك لا تملكين الثقة لإدانتهم. وحتى بعد أن أعلن كل الممثلين السياسيين الرسميين للفلسطينيين وللجامعة العربية قبولهم بحل الدولتين وبرغبتهم في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، تقولين إنك ما زلت عاجزةً عن فهم النيات الحقيقية للفلسطينيين أو العرب! أنا عاجز عن التعليق على عجزك!
ردًا على قولك "إن حماس تستغل المدنيين كدرعٍ وقائية، وهي نفسها مسؤولةٌ عن العديد من الوفيات بين سكانها، لأنها تطلق النار من مخيمات اللاجئين والمستشفيات"، لن أقول: "لا يمكن لحماس الحصول على منشآت وثكنات عسكرية مناسبة، وكانت إسرائيل ستدمرها على الفور"، فقط، بل سأقول، أيضًا: وفقًا للقانون الدولي والإنساني والأخلاقي، لا يحق لإسرائيل قصف المستشفيات، تحت أي ظرف، حتى لو صدقت تلك المزاعم الكاذبة، غالبًا. لكنك، للأسف، تبررين لإسرائيل هذا القصف، وما ينتج منه من جرائم وضحايا، بحجة تلك المزاعم. أما في خصوص مخيمات اللاجئين، فربما كان ينبغي أن تعرفي أن كل قطاع غزة عبارة عن مخيمٍ وسجنٍ للاجئين، وأن معظم هؤلاء اللاجئين الذين يبلغ عددهم مليوني لاجئ تقريبًا، قد نزحوا، سابقًا، من المناطق التي احتلتها إسرائيل وأقامت عليها دولتها، وأن إسرائيل تقوم الآن مجددًا بتدمير بيوتهم وتهجيرهم مع قتل واعتقال عشرات الآلاف منهم.
في مقابل مظاهرةٍ واحدةٍ (أو مظاهرتين)، في إسن/ ألمانيا رفعت شعاراتٍ متطرفةً وغير مقبولةٍ حتى من قبل معظم الفلسطينيين والعرب والمسلمين، عن دولة الخلافة وما شابه، كان هناك عشرات المظاهرات لفلسطينيين ويهود وغيرهم لم ترفع إلا شعارات المطالبة بوقف المجزرة الإسرائيلية مع إعلانها التعاطف مع الضحايا الفلسطينيين وإدانتها للمجرمين وداعميهم. لكن تركيز أصحاب الموقف الألماني انصبّ على هذه القلة القليلة من المتظاهرين، مع إطلاق التعميمات السلبية على أساسها، وتجاهَلَ المضامين المحقة لشعارات وهتافات معظم المظاهرات الأخرى. كذلك يجري تجاهل أن معظم الدول العربية أعلنت بوضوح إدانتها لحماس ولهجوم السابع من أكتوبر. في المقابل، هل هناك مسؤولٌ ألمانيٌّ واحدٌ أدان الجرائم الإسرائيلية؟ على العكس من ذلك دائمًا، لم تكتفِ الحكومة الألمانية بالتضييق على المطالبين، في ألمانيا وخارجها، بوقف الجرائم الإسرائيلية في غزة، بل إنها قدمت كل الدعم الإعلامي والسياسي والمادي والعسكري لإسرائيل. وهذا موقفٌ مخزٍ وغير أخلاقيٍّ على الأقل، ويلغي أي مشروعيةٍ أو مصداقيةٍ لأي حديثٍ من أصحاب الموقف الألماني عن الأخلاق وحقوق الإنسان. وفي مقابل وضع كل الفلسطينيين أو العرب أو المسلمين في سلةٍ واحدةٍ، هناك من أصبح يضع كل الألمان في سلةٍ واحدةٍ أيضًا، ويرى أنهم، جميعًا تقريبًا، يتبنون الموقف الألماني الرسمي. وأحد أهداف حواري معك كان إظهار خطأ هذا الاعتقاد أو التعميم غير الموضوعي. لكنني أخشى أن كثيرين سيرون في كلامك، وحوارنا عمومًا، دليلًا على صحة اعتقادهم أو تعميمهم الخاطئ.
إسرائيل، بوصفها دولة احتلال واستيطان، وليس بوصفها دولة يهودٍ، مكروهةٌ من قبل مئات الملايين، من المسلمين وغير المسلمين. ولا أرى في ذلك مشكلةً أو المشكلة، طالما انه لم يترافق مع كراهية اليهود لأنهم يهود، أو مع سعيٍ لارتكاب جرائم بناءً على تلك الكراهية. المشكلة هي في الاحتلال والاستيطان والتهجير والإجرام ودعمه. والمسألة عند مسلمين كثر ليست صراعًا بين مسلمين ويهود، بل هي نضالٌ ضد الاحتلال. وكان هذا موقف مؤسس حركة حماس نفسه، الشيخ أحمد ياسين، حيث صرح أنه ليس لديه أو لدى الفلسطينيين أو المسلمين مشكلةٌ مع اليهود، وأنهم كانوا يعيشون معًا بسلام قبل الاحتلال، وإنما المشكلة والصراع مع الاحتلال تحديدًا. وأن هذا الصراع أو النضال كان سيكون موجودًا حتى لو كان من احتل الأراضي الفلسطينية وشرد أهلها، هم من المسلمين.
لا أعتقد أن حماس تناضل من أجل كل حقوق الإنسان، لكنني أعتقد أن (معظم) أفرادها يناضلون لتحرير أراضيهم من الاحتلال، وما يرافقه من استيطانٍ وقمعٍ وذلٍّ. ومقاومة الاحتلال (عسكريًّا) من حقوق الإنسان ومشروعة وفقًا للقانون الدولي. لكنني أرى أن حماس مارست وتمارس إرهابًا وجرائم، ليس بحق إسرائيليين فحسب، بل بحق فلسطينيين كثر أيضًا. وأود تذكيرك بأن حماس هي نتاج الاحتلال، وليس العكس. وأن الاحتلال كان موجودًا قبل تأسيس حماس عام 1987، وأن الاحتلال والاستيطان والتهجير والإجرام الإسرائيلي موجودٌ في الضفة الغربية التي لا تحكمها حماس.
أما الحديث عن الدول العلمانية في الإسلام فلا أجد له مكانًا مناسبًا في هذا السياق. لكنني أود تذكيرك بأن إسرائيل أعلنت نفسها دولةً يهوديةً، مع ما يتضمنه ذلك من لا ديمقراطية وتمييز جذريٍّ، مبدئيٍّ وفعليٍّ، ضد الفلسطينيين/ غير اليهود. لكن ذلك ليس موضوعًا مهمًّا أو مطروحًا لدى أصحاب الموقف الألماني الذين يخشون من إمكانية قيام دولةٍ إسلاميةٍ، وينفون إمكانية ان تكون تلك الدولة ديمقراطيةً، ويسكتون، في المقابل، عن عنصرية أو لا ديمقراطية دولة إسرائيل اليهودية، بل يؤكدون ديمقراطيتها! ومرةً أخرى، نجد معايير مزدوجةً ليست متأسسةً على القانون الدولي ولا على منظومة حقوق الإنسان، بل على أحكامٍ مسبقةٍ، ومصالح ضيقةٍ، وانحيازٍ دائمٍ لطرفٍ على حساب طرفٍ آخر.
أشعر بالحرج والخجل من التصريح بما أعانيه من حزنٍ وألمٍ من مجرد التفكير في مضمون الموقف الألماني/ الإسرائيلي. أما المعاناة فناتجةٌ، من جهةٍ أولى، عن أن ذلك الموقف غير موضوعيٍّ ولا منطقيٍّ معرفيًّا، وغير منصفٍ أخلاقيًّا، ومن جهةٍ ثانيةٍ، عن التفكير في العواقب الكارثية، العملية والنظرية، المترتبة عن تبني هذا الموقف وتطبيقه أو ممارسته ودعمه. أما شعوري المذكور بالحرج والخجل فناتجٌ من إدراكي لسهولة معاناتي، مقارنةً بما يعانيه الفلسطينيون عمومًا، وسكان غزة خصوصًا، من جراء الموقف الألماني/ الإسرائيلي المذكور. وبصراحة ما زلت لا أصدق أن هناك "شخصًا سويًّا" لديه الحد الأدنى الضروري من المعرفة والأخلاق يمكنه أن يتبنى مثل هذا الموقف أو يدافع عنه. ولهذا، كان وما زال لدي شكوكٌ كبيرةٌ في معنى أو جدوى أي حوارٍ مع من يتبنى مثل ذلك الموقف.