حكايات رمضانية.. تهديد العجيلي بالقتل

03 ابريل 2023
+ الخط -

بعد الإفطار بأقل من ساعة واحدة، يبدأ بعض زبائن المقهى بالقدوم إليه، ولا سيما مدخنو الأركيلة (الشيشة)، لأن تجهيز الأركيلة في البيت ليس سهلاً، وأما هنا فثمة رجل مختص بالأراكيل، يقدم لك الأركيلة، وكلما تضعفت يجدد لك النارة.

وكنت أنا آتي باكراً، لكي أجالس صديقي الرائع أبو عناد، وأستمع إلى حكاياته، وبالأخص الحكاية التي بدأها عن أبو سمير الترمزاوي، الرجل الذي جاء يسكن في مدينة إدلب اضطراراً، بعدما هددوه بالقتل، ثأراً لجريمة ارتكبها ابن عمه في قرية الردادة.

أوجز "أبو عناد" القصة بجملة لو كتبناها لما تجاوزت السطرين. قال إن أسرة أبو سمير، في القرية، تشاجرت مع أسرة "أبو صدفة"، وأثناء ذلك قُتل "علي أبو صدفة"، فقررت أسرتُه الانتقام من آل الترمزاوي بقتل أبو سمير، على مبدأ: رأس برأس!

قلت: تفاصيل قصتك، يا أبو عناد، جميلة جداً، وأحلى ما فيها أن أبو سمير لم يشارك في المشاجرة، ولم يكن على علم بها أصلاً، لأنه كان في حلب يشتري راديو. ولكن اعذرني إذا قلت لك إن فكرتها ليست جديدة، ففي بلادنا، مع الأسف، يتم تحميل ذنب شخص ما، أو جريمته، لشخص آخر، بكل بساطة، على طريقة جحا الذي هرب حمارُه الداشر، فراح يضرب حماره المربوط. باختصار؟ الإنسان في بلادنا لا قيمة له. وقبل أن أنسى.. دُعِينا، ذات يوم من سنة 1998، للاستماع إلى محاضرة في المركز الثقافي بمدينة سراقب، يلقيها الأديب الكبير الراحل عبد السلام العجيلي. لَبَّيْنَا الدعوة بالطبع، وسُعدنا بالأحاديث الشيقة التي رواها هذا الأديب المخضرم، الرائع.. بعد انتهاء المحاضرة، وفي الفترة التي خُصصت للحوار، طلب منه أحد الحاضرين أن يخبرنا بأية حادثة طريفة حصلت له، فقال عبد السلام:

كان الرجل مصاباً بطلق ناري، وأنا طبيب عام، لست مختصاً بالجراحة.. ولكن، لم يكن في الرقة آنذاك أي طبيب آخر يمكنني أن أحولهم عليه.

- في بدايات عملي كطبيب، كنت في عيادتي بمدينة الرقة، مساء، أعاين أحد مرضاي، وفجأة، حدثت جلبة في قاعة الانتظار، فتحت الباب فوجدت بعض الرجال يحملون جريحاً، وطلبوا مني أن أسعفه. اعتذرتُ للمريض الذي كنت أعاينه، وأدخلت الجريح إلى الغرفة. كنت أريد منع مرافقيه من الدخول معه، ولكنهم أصروا على الدخول، وفي هذه الحالة لا تستطيع قوة على وجه الأرض منعهم، فعيونهم كانت محمرة، وواضح أن الحديدة، كما يقول المثل، حامية. كان الرجل مصاباً بطلق ناري، وأنا طبيب عام، لست مختصاً بالجراحة.. ولكن، لم يكن في الرقة آنذاك أي طبيب آخر يمكنني أن أحولهم عليه. المهم؛ بدأت فوراً بالإجراءات الجراحية اللازمة لإخراج الرصاصة من الجسم، التي كنا قد أخذنا عليها دروساً في كلية الطب.. ولكم أن تتخيلوا، أيها السادة، كم كنت مشدوداً، ومتوتراً، وحريصاً على النجاح بمهمتي، ولكن الجريح الذي لم يكن غائباً تماماً عن الوعي، أتحفني بجملة كان من شأنها أن تجعل أعصابي تنهار، وتُسقط الأدوات من يدي. قال لي وهو يتألم:

- يا عبد السلام (لم يسبق اسمي بلقب دكتور)، أنا من العشيرة الفلانية، والشخص الذي قوصني فلان الفلاني، من عشيرتكم، يعني ابن عمك، وأنا أوصيت أولاد عمي هؤلاء، إذا متُّ، أن يأخذوا الثأر من أحسن واحد في عشيرتكم. وهو أنت!

انتهت الحكاية. ومن الغريب أن أحد الحاضرين في المركز الثقافي بسراقب، سأله:

- دكتور، هل نجحت العملية ونجا الرجل من الموت؟

فضحك عبد السلام وقال:

- سؤالك غريب. لو لم ينجُ الرجل، هل كنت تراني بينكم الآن؟    

عندما وصلت بحديثي إلى هنا، مد أبو عناد يده نحو نادل المقهى، وقال له:

- هات لنا كاسين شاي، اليوم أخونا أبو مرداس نفسه مفتوحة على الحكي.

قلت للنادل: لا تنس يا أبو مريد أن تسجل قيمة المشروبات كلها علي، لأن دور أبو عناد، بحسب توزيع الأدوار بيننا، هو الطلب والشرب، وأنا دوري الدفع!

وقلت لأبو عناد: أنت تعلم أن الزواج، في بعض المناطق السورية التي تسكنها العشائر، باهظ التكاليف، والمهر لا يُستخدم لشراء ذهب ومفروشات وألبسة للعروس، بل يسلمه العريس لوالد العروس، أو شقيقها، باليد (شندي). فكانوا يقولون، إذا كانت الفتاة جميلة جداً: مهرُها يساوي ملء حضن أبيها مَيَايا. ويقصدون بالمَيَايا قطعَ النقود من فئة مية ليرة سورية. وكانت المية ليرة، في تلك الأيام، تشتري 25 غرام ذهب. وكان الشبان، في تلك المناطق، يعانون من هذه العادة الكئيبة، أقصد غلاء المهور، فاهتدوا إلى مبدأ خطير جداً، لكي يوفروا دفع المَيَايا، اسمه المقايضة. وبما أن السلعة التي تجري عليها المقايضة امرأة، فقد كانوا يقولون: فلان وفلان تزوجا، كل واحد منهما أخذ أخت الآخر (رأس برأس). ويقولون عن شَعْر المرأة الطويل، الكثيف، "كشّة"، لذا كانوا يطلقون على المقايضة، في بعض الأحيان، اصطلاح: كِشَة بكِشّة.

وعلى كل حال، أنا لا أريد أن يتحول حديثُنا الرمضاني هذا إلى باب انتقاد العادات والتقاليد، ولكن، من باب الطرافة المؤلمة، أقول لك إن زواج المقايضة لم يكن يقتصر على شابين وصبيتين، فأحياناً يقايض الأب على ابنته، يتزوج مقابلها شابة يضيفها إلى نسائه الأخريات.. والأمر الأشد خطورة أن المعاملة بين الزوجين لا تكون على أساس المحبة والمودة والرحمة، بل على مبدأ (المعاملة بالمثل)، لذلك فإن إحدى المرأتين اللتين زُوِّجَتَا بالمقايضة، تكون جالسة مع زوجها وأولادها، بأمان الرحمن، وإذا بزوجها يقول لها:

- قومي، ضبي بقجتك وانقلعي على دار أهلك!

- ليش؟

- لأن أخاك الذي تزوج أختي ضربها وطردها من داره.

- وأنا أيش ذنبي؟ وأنت أيش ذنبك؟

ولكن لا جواب، فالكل يعرف أن هذه العادات مجحفة، ولا أحد يفكر بالتخلي عنها.

قال أبو عناد:

- لم تصدقني عندما قلت لك إني لو كنت كاتباً لتفوقتُ عليكم، يا كتاب القصة في إدلب جميعاً. أنا عندما أروي قصة ألاحق الأحداث بخطوطها العريضة، وتفاصيلها الجميلة، وأترك للقارئ أن يأخذ منها العبر، أو يكتفي بالاستمتاع بها دون عبر، وأما أنتم الكتاب فتصرون على التباكي، والتظلم، والكلام عن الظلم والإجحاف، ولولا الحياء لذرفتم دموعاً مدرارة على الفتاة المسكينة التي ظُلِمَتْ بزواج المقايضة.

- طيب سؤال. لو كنت مكاني كيف ترويها؟

- أنا لا أتبنى الحكايات التي يرويها غيري. فأنا، كما تعلم، فقير جداً بالمال، ومديون من يوم وفاة والدي حتى هذه اللحظة التاريخية، ولكن في مجال الحكايات أنا معلم، وغني إلى درجة أنني أستطيع أن أوزع حكاياتي على الفقراء والمعوزين! وعلى كل حال، دعنا نبل ريقنا بالشاي، وأحكي لك حكاية أخرى.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...