حتى لو كنت أمام صفّ طويل من الملوك
حين توافق معزوفة لريخارد فاغنر فلسفة فريديرك نيتشه، أو حين توافق فلسفة نيتشه موسيقى فاغنر، لا أجد ما يوافق فلسفة الفارابي أو ابن سينا أو أشعار الحلاج أو أوراد ابن عجيبة أو أبي العباس السبتي من موسيقى، سوى ناي عازف مجهول، وليس هناك جنان يصل إليها اللحن سوى امتداد الطبيعة في وحشة الغسق في غموض التجلّي ورهبته الليلية المتخيّلة عبر اللغة وفصاحتها أكثر مما هي في الواقع.
الموسيقى الوحيدة التي أجدها موافقة لكلّ هذا، وفاقاً يشبه المصاهرة عن حبٍّ جارف، هي الموسيقى الفارسية. وهذا غير مستغرب حين نعرف أنّ أغلب فلاسفة الإسلام وأدبائه الكبار كانوا فرساً أو تأثروا بثقافة وتاريخ تلك الجغرافيا. بل أطرب أكثر لتلك الموسيقى القادمة من هناك، المعمّدة بظلّ النار في المعابد المجوسية المعتمة وبكائيات جنائزية ولطمية للروح، والتي لا أعرف مصدرها الحقيقي ولا سبب تخييمها بالسواد والتراجيديا الكبيرة على وجدان هذه الشعوب إلى الأبد.
أشعر بغربة معينة أمام السمفونيات الغربية، رغم ما أشعره داخلها من رقي ودقة ونظافة، أو بالأحرى ما أستشعره دون أن أعيشه فعلاً، وما تحمله أيضا من إزعاج تنعكس فيه بعمق همجية الحملات الصليبية القديمة والحديثة والمكننة والبرود العاطفي. هذا كله يفوق طاقتي من الرقي كما من الهمجية، بل ينزلق خارج أعماقي كخاطر عابر، بينما تحفر موسيقى النايات الفردية وأوتار القوانين ذات النقوش المحفورة بأيدي الصنّاع التقليديين والحجر الصقيل للجوامع والصوامع والهجرات والأوبئة الطويلة والخيام السوداء للبدو الرّحل والمساحات الرعوية المعشوشبة البدائية أكثر في أعماقي.
وكما لا أستطيع أن أنضبط لجلسة عشاء رسمي بالبذلة وبالشوكة والسكين والإتكيت اللازم، لا أستطيع أيضا أن أصمت ساعتين داخل مسرح كي أسمع سمفونية أو كي أتابع عرض باليه ملتبساً. لا بد لي أن أتنحنح، أن أكح، أن أحك رأسي أو قدمي، أن أصرخ طرباً: الله، أن أحدق في ساعتي بسبب الملل، أن أتململ مع الإيقاع وأن أنهض لأرقص، أن أحدّث صديقا في موضوع بينما العرض الموسيقي مستمر، ثم أخيراً أن أشْتُم شيئاً ما أو أحداً ما. إنها سلوكيات رعوية لست فخوراً بها كثيراً، سوى أنه لا يمكنني الفكاك منها أبداً، فقد فات الأجل على ذلك تقريباً، بالتالي أتصالح معها أخيراً، ومستعد لارتكابها بمتعةٍ وبسبق إصرارٍ وترصّد، حتى أمام صف طويل من الملوك.
الرقص ليس سوى تجسيد لروح الموسيقى، بالتالي أغلب رقصنا عبارة عن جذبات ما ورائية أو مضاجعات رمزية تفتّت الحرام بتحويله مجازياً إلى حلال
الرقص أيضاً ليس سوى تجسيد لروح الموسيقى، بالتالي أغلب رقصنا عبارة عن جذبات ما ورائية أو مضاجعات رمزية تفتّت الحرام بتحويله مجازياً إلى حلال. من الإيقاع الموغل في روحانيته وبكائياته وجنائزياته وطهرانيته مباشرة إلى الإيقاع الفاحش في رمزياته وتأويلاته الذي لا تستجيب لنغماته بشدّة سوى خلفية الراقصة دون أيّ جزء آخر في جسدها. هذه الثنائية بين المقدس والمدنس، هي جوهر هذه الموسيقى التي تأسر سمعي ووجداني ولاوعيي معبّرة بدقة عن جسدي، وعن ملامحي وعن الفضاء والبيئة التي أنتجتني، والتي أنتمي إليها حتى النخاع، حتى خلال وجود علاقة تضاد معها..
أرقص على إيقاعات ناس الغيوان والمشاهب، رقصات أشعر أنّ جيناتي ورثتها بسلاسة شديدة وبانسجام وتناغم فريدين مع الماء والهواء وطبيعة هذه الأرض، إلى درجة أني لم أبذل أبداً، ذات يوم، أيّ مجهود لإتقان هذه الرقصات. أطرب للعيطة وللسواكن وللتماوايت الجبلي، كما تسكنني أيضا أغاني الراي التي اكتسحت المغرب في فترة سابقة عبر صوت نصرو وحسني (مغنيان جزائريان)، بكلّ ما يمكن أن يقال عن الراي (حركة موسيقية غنائية) إنه شعبي أو شعبوي أو هابط، إلا أنّ هذا كله لا يلغي بالنسبة إليّ تشكل وجداني ووعيي بالحب والعشق والصبابة قبل سنوات طويلة، مستسلماً لبحة صوت نصرو وبكائياته المستمرة وشجنه الغريب وهامشيته، بحيث نجح دون شك في التعبير عن وجدان ابن حي شعبي أكثر من "الفيديو كليبات" التي تُمثّل صورة عاشق ناجح يملك سيارة فارهة وفيلا كما يملك الوسامة المثالية. كان وجه نصرو مليئا بالبثور، وأغانيه لا تقبل عليها سوى الكباريهات والشوارع وسيارات المراهقين والحراكة، والاستوديو ليس سوى آلة أورغ ومكروفون. بينما الأعمق من كلّ ذلك، يتمثّل صوته تلك الموسيقى لجراحٍ بليغة ومزمنة هي تأويل عميق لثقافة هذه الشعوب التي تعبّر عن الفرح بالحزن، وعن النجاح بالدموع، وعن الحب بالهجران والصد والفراق والخيانة والموت، وعن الحياة بالمأساة والفجيعة والذنب العظيم. في غياب كامل لموسيقى الاحتفال والأمل والأفق الوردي، التي حين تحضر لماماً تعبر كالضيف دون إقامة لأسباب مجهولة، بينما تصمد أكثر الدموع والحسرات وبحات الناي والمزامير الحادة والمواويل القاتلة..
غياب كامل لموسيقى الاحتفال والأمل والأفق الوردي، مقابل صمود الدموع والحسرات وبحات الناي والمزامير الحادة والمواويل القاتلة..
من هذا المقهى البروكسلي (نسبة لمدينة بروكسل)، والذي يذكرني بالرباط، أنظر من نافذته فأسرح كما لو أنّي أنظر من نافذة حافلة إلى السماء، والحافلة تتوّغل في ظلام الليل في طبيعة المغرب العميق المتوارية عن الأضواء، وعن هندسة المدن والعواصم، تتلوّى الطريق بين الجبال كأفعى الكوبرا، دون رصيف، تطلّ القرى كالشامات الباهتة على سواعد جانيات المشمش والبرقوق المتعبات، أشجار حزينة ترجع إلى الوراء، كلاب ضالة تعبر بعيون براقة قاصدة الزرب والخرائب، القروي نائم متكئاً على زجاج النافذة، فمه مفتوح، عمامته مفكوكة، وعند قدمه سلة مليئة بالبيض. سحابات قليلة مظلمة يضيئها "فار الكار"، قد تمطر فوق الحقول وفوق بيادر التبن والمطامير وفوق الزرائب والمغارات وفوق سور المدرسة الكولونيالية القديمة المهدّم، والذي كتب عليه بالقطران بخط غير متناسق كخط الفقهاء في التعاويذ: ممنوع البول.
أستسلم لأحيدوس (أحد فنون الغناء والرقص الجماعي الإستعراضي الأمازيغي) قادمة من مذياع السائق، متأكداً أكثر أنّ هذا الإيقاع للبنادير المسخنة جيداً بجمر الحرائق، هو وحده القادر على التعبير عن هذه الطبيعة وهذا الهواء المشبع بالحسرة، وهذه القرون الطويلة المنسية هنا داخل وجداني وذاكرتي كصناديق الكنوز الفارغة..