حبٌّ يتنفس بين الأنقاض
في مدينة تعز المحاصرة، أكلت الحرب كلّ ما هو جميل، أرواحًا ومدينةً، حتى غدت الشوارع تتحدّث بلغة الألم والذكريات، والمباني المدمّرة، التي كانت يومًا ما تعجّ بالحياة، أصبحت شاهدة على صراعٍ لا ينتهي. ورغم ذلك، هناك شيء ما في المدينة، كأنّها تحتفظ ببقايا الجمال في زواياها المنسيّة.
في يومٍ ما، قرّرت أن أتجوّل في شارع جمال، الشارع الذي لا ينام، حيث يتقاطع الألم مع الأمل. الهواء مفعمٌ برائحة الخُبز البلدي من المنازل المجاورة، والأصوات تتداخل مع ضحكاتِ الناس وصوت موسيقى الأغاني اليمنية الشعبية الذي يتسلّل من أحد المحال. وهنا لفت انتباهي شخص مستلق على كرتونةٍ ممزّقة بجانب الرصيف. كان يبدو في منتصف العمر، يرتدي ملابس بالية تعكس حياة مليئة بالتجارب، شعره الكثيف ينسدل على جبينه، وعيناه كانتا تحملان بريقًا غريبًا، كأنّهما تعكسان عالماً آخر.
تقدّمت منه بخطواتٍ حذرة، وقلبي يخفق بشغف الاستكشاف. عندما اقتربت، أدركت أنّه كان يهذي بكلماتٍ غير مترابطة، لكن نبرته كانت تحمل شيئًا من الجمال. "أحبك كما يحب الورد الشمس، كما يحب البحر السماء!" كان يتحدّث بحماس، وكأنّ الحبّ هو كلّ ما يعنيه ويعنيني.
توقفت أمامه مشدودًا بحديثه. "من تتحدّث عنه؟" سألته، وأنا أشعر بشيءٍ غريبٍ يجذبني نحو هذا الرجل.
ابتسم لي ابتسامة عريضة، وكأنّني أعطيته دفعةً من الأمل. "أحدّثك عن الحب، عن الجمال الذي يحيط بنا، وعن الأرواح التي تتنفس في الشوارع." صوته يتلاعب بالأفكار.
"ولكن، لماذا تستلقي هنا؟" تساءلت، مُحاطًا بمزيجٍ من الفضول والشفقة.
"لأنّني أبحث عن الحبّ في كلّ زاوية، في كلّ خطوة. الشارع هو مسرح كبير، وأنا مجرّد ممثل في قصتي." قال، وعيناه تلمعان بشغف.
يمكن للمرء أن يعثر على الجمال في أكثر الأماكن غير المتوقعة، ويمكن للحبّ أن يتجلّى في أبسط الكلمات
تأملت شعره الكثيف الذي كان يتمايل مع نسماتِ الهواء، وتفاصيل وجهه التي كانت تحمل علامات الحياة. لم يكن مجنونًا بالمعنى التقليدي، بل كان يحمل روحًا جميلة، تتجاوز الأطر العامة. "هل تحب الشعر؟" سألته، محاولًا فهم عمق شخصيّته.
"أعشق الشعر!". أجاب بحماسة: "إنّه لغة الروح، كلّ كلمة تُكتب هي نبض في قلب الوجود."
ثم بدأ يهذي بأبياتٍ شعريّةٍ، وكأنّ الكلمات تتدفق من داخله دون أيّ جهد. كنت مستغرقًا في سماعه، وكأنّني وجدت في حديثه ملاذًا من واقع الحياة اليومية. ومع كلّ بيت شعرٍ، أشعر بأنّني أقترب أكثر من فهم روحه.
- هل لديك اسم؟. سألت، وأنا أراقب تعابيره.
- أنا الحب، أنا الجنون، أنا كلّ ما يجعل الحياة تستحق العيش. أجاب، وفمه يبتسم بلا انقطاع.
ضحكت، ولم أستطع مقاومة سحر كلماته.
- ولكن، لا بدّ أن لديك اسمًا آخر.
- أطلق عليّ أيّ اسم، فأنا أعيش في كل الأسماء. قال وهو يلوّح بيده في الهواء.
تبادلت الحديث معه لفترة، وكأنّنا في عالمٍ خاص بنا.
أستمع إلى قصصه عن الحبّ، عن الحلم، وعن الأشياء الصغيرة التي تجعل الحياة جميلة.. وكلّما تحدّث، أرى العالم من خلال عينيه، عالمًا مليئًا بالألوان والأحاسيس.
مع مرور الوقت، بدأت الشمس تغرب، وأخذ الظلام يسطو على الشارع. "يجب أن أذهب الآن"، قلت، وشعرت بشيءٍ من الحزن يعتصر قلبي.
- اذهب، ولكن لا تنسى الحبّ الذي وجدته هنا. قال، وهو ينظر إليّ بعينين مليئتين بالإلهام.
توجّهت بعيدًا عن كرتونته الممزّقة، وأنا أشعر بأنّني أحمل جزءًا من روحه معي. كانت تلك المصادفة في شارع جمال تجربةً غيّرت شيئًا في داخلي، ذكرتني بأنّ الجمال يمكن أن يُعثر عليه في أكثر الأماكن غير المتوقّعة، وأنّ الحبّ يمكن أن يتجلّى في أبسط الكلمات.
تلك اللحظة وتلك الروح الجميلة ستبقيان خالدتين في ذاكرتي، تُذكرانني بأنّ الحياة مليئة بالمعاني، حتى في أكثر اللحظات بساطة، وفي أكثر الأماكن دمارًا.