جذب الانتباه والسعي وراء القبول الافتراضي
مع تسرّب خيوط نور الصباح الأولى ينقشع ظلام غرفته، فيتشبّث بهاتفه كمن يمسك بطوقِ نجاةٍ في بحرٍ مُتلاطم، لا يجرؤ على إفلاته خوفًا من الغرق في الواقع الذي لا يودّ النهوض من فراشه لمواجهته. وبأصابع مرتجفة؛ لا تدري أترتجف بردًا أم توتّرًا، يُزيح قفل الشاشة بلهفةٍ، وكأن وراءها عالم ينتظره بشغفٍ يماثل شغفه!
تنزلق سبّابته على الشاشة بانسيابيّةٍ، لتمرّ على التطبيقات كأنّها أبواب لعوالمٍ تنفتح على همساتِ الإعجاب وصدى التعليقات. مشاعر متداخلة تجتاحه، تبدأ بنشوةٍ خافتةٍ كنشوةِ قبلةٍ عابرة مع كلّ إعجاب وتعليق إيجابي على منشوراته، يتبعها إحساس بالفراغ يكبر في أعماقه، حيث يُلقي تعليق سلبي به في هاوية هذا الفراغ، ولا يُعيده إلى بعض التوازن سوى قلب وضعته حسناء على صورةٍ بلهاء شاركها. بعضُ الإعجابات والقلوب تستمرّ بالمرور كفحيحٍ خافت يذكّره بأنّه مرئي، وعلى الرغم من ذلك، يبقى هنالك شيء مفقود، عطش لا يرتوي، وقلق خفي يتسلّل بين لحظاتِ النشوة العابرة ولطماتِ الناقدين، دافعةً إيّاه للبحث دون توقّف عن شيءٍ لا يعرفه، أسيرًا لدوامةٍ لا تنتهي، حيث الإدمان ليس في النظر إلى الشاشة ومتابعة القصص والأخبار، بل في انتظار ما تحمله من تأكيدٍ على وجوده، وأنه مرئيٌ ومُقدّر من قبل هذا العالم. متى وكيف وأين أصبحنا مُدمني جذب الانتباه؟
لقد بتنا نعيش في عصرٍ تتقاذفنا فيه دوامات اقتصاد جذب الانتباه الذي بشّر به هربرت أ. سيمون مطلع سبعينيات القرن الماضي، مدفوعين جميعًا في سباقٍ محمومٍ للهيمنة على أثمنِ موارد الإنسان، تركيزه ووقته. لنكن واقعيين حقًّا، من منا لا يحبّ أن يجذب الانتباه، ويصبح محطّ الأنظار ومحور الكون؟ أظننا جميعنا كذلك إلا من رحم ربي من المتصالحين مع أنفسهم حدّ الثمالة. ففي عصر التواصل الاجتماعي، تحوّل اقتصاد جذب الانتباه من توجّهٍ اقتصاديٍّ إلى معركةٍ شخصيّة يخوضها معظمنا يوميًّا، حيث أصبح حصد الإعجابات والتعليقات والمشاركات بمثابة العملة الاجتماعية في المجتمعات الرقميّة المُعتمدة على المعلومات، عملة تعزّز شعور الأفراد بالقيمة والوجود، مما يدفع بالكثيرين منا إلى نشر أيّ محتوى، والإفتاء في أيّ شأن، والتعليق على أيّ موضوع، حتى لو كان ذلك على حساب أصالة أفكارنا أو جودة ما ننشره في سعينا المحموم لجذب الانتباه.
الإدمان ليس في النظر إلى الشاشة ومتابعة القصص والأخبار، بل في انتظار ما تحمله من تأكيدٍ على وجود المرء وأنه مرئيٌ ومُقدّر من قبل هذا العالم
متجاهلين في سعينا مخاطر المعرفة المُتوهّمة عندما تمتزج بالرغبة الجارفة في الاعتراف والتقدير. حيث تلعب المعرفة المُتوهّمة في هذا السياق دورًا مهمًّا في تشكيل سلوك الأفراد على وسائل التواصل الاجتماعي، وغالبًا ما تعزّز انتشار الآراء السطحية أو غير الدقيقة والمُضلّلة، فلا يمكننا تجاهل "تأثير دانينغ كروجر" حين يبالغ الأغبياء في تقدير قدراتهم ومعارفهم، مما يمنحهم قدر من الثقة غير المبرّرة لمشاركة آرائهم، وغالبًا ما يؤدي وهم المعرفة هذا إلى انتشار الخزعبلات و"الهبد" الممنهج، حيث يستمر هؤلاء الأفراد بإمطارنا بعجائبهم المُسْتَطْرَفَة غير مدركين حدود قدراتهم المعرفية.
وعندما تمتزج المعرفة المُتوهّمة بالرغبة في الظهور والحصول على اعتراف المجتمع المحيط وتقديره تتحوّل إلى واحدة من أقوى محرّكات السلوك على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تؤدي الإعجابات والتعليقات والمشاركات وظيفة التأكيد اللحظي على قيمة الشخص وأهميته، على الأقل بالنسبة لجماعة "دانينغ كروجر"، حيث تخلق حلقة التواصل العبثي هذه حلقة مفرغة من الإدمان، وتشجّع الأفراد على مشاركة أفكارهم وخبراتهم بغضّ النظر عن صلاحيتها للنشر والمشاركة، طمعًا في تحقيق القبول والموافقة المجتمعية، مما يطمس الخطّ الفاصل بين التعبير الهادف والمشاركة الاستعراضية.
ثمّة صعوبة في التمييز بين الآراء المستنيرة والضوضاء التافهة على وسائل التواصل الاجتماعي
وفي باب حرية التعبير، فإنّ الثقافة السائدة اليوم تشجّع الأفراد على إعلاء أصواتهم والمساهمة بوجهات نظرهم لمجرّد أنهم قادرون على ذلك، بغضّ النظر عن عمق أو خبرة هذا الصوت وافتقاده أيّة رؤى قيّمة وحقيقية. وأنا مجبر على الاعتراف هنا بأنّ هذا الشمول من شأنه أن يعزّز الديمقراطية في التواصل، وأنه من حقّ كلّ إنسان التعبير عن نفسه مهما بدا هذا التعبير تافهًا للبعض، وأنه ليس من حقّنا أن نُنَصّب من أنفسنا قضاة على ما يفكّر به الآخرون. ولكنّنا في الوقت ذاته لا نستطيع تجاهل ما تستجلبه هذه الظاهرة من مخاطر تمييع جوهر الخطاب المجتمعي، وتسفيه النقاشات في الفضاء العام، مما يؤدي إلى زيادة صعوبة التمييز بين الآراء المستنيرة والضوضاء التافهة. وللأسف، فالمشكلة لم تعد تكمن فقط في طغيان هذا النوع من المحتوى التافه على المشهد، بل امتدّت لتشمل طبيعة المنصّات التي تشجّع على إنتاجه، وتسهّل الوصول إلى أدوات النشر والتفاعل معه، والتي تجعل أيّ شخص قادرًا على بثّ أفكاره دون تدقيق أو مراجعة. ففي حين يحفّز هذا الوصول السهل تنوّع الأصوات ويعزّز الشمولية، فإنّه يفتح الباب أمام مجموعة من المخاطر الكبيرة. ابتداءً من الانتشار السريع للمعلومات المضلّلة، والتقليل من قيمة الخبرة والمعرفة الحقيقية، وتعزيز أثر غرف الصدى التي تضخّم الاستقطاب، وصولًا لجعل هذه المنصات أرضًا خصبة للتنمّر والمضايقة والمحتوى التافه.
لا أعلم هل بتنا ننشر في كثير من الأحيان لأنه لدينا شيء حقيقي ومهم لمشاركته مع الكوكب، أم ننشر فقط لأننا نخشى أن نبقى خارج دائرة الضوء، تحت مظلّة اقتصاد جذب الانتباه الذي لا يُعيد تشكيل أساليب تواصلنا فحسب، بل يُعيد تشكيل الطريقة التي نفكّر بها ونعبّر بها عن أنفسنا أيضًا؟
في النهاية، المسؤولية تقع على عاتقنا نحن كأفراد، ومن ثم المنصّات، لتوجيه هذا الاقتصاد نحو دعم المحتوى القيّم والمفيد وإقصاء الضوضاء، والاعتراف الحقيقي بقدراتنا، والتفكير مرّتين قبل النشر، بدلًا من تعزيز دائرة المحتوى التافه التي تستنزف العقول والوقت، وتزيد من توتّرنا وإدماننا.