جدوى القراءة

22 يونيو 2021
+ الخط -

القراءة تكون عديمة الجدوى إن لم تكن للاستزادة وتطوير الفكر والانفتاح على الجديد في عالمنا سريع التحرّك والتغيّر.. هدف القراءة الجادة إنضاج الحياة وتعميق المفاهيم السليمة، والمعاصرة، والتخلص من الجمود، والالتحام بعناصر التقدم، والتأثر بها.

ويتبادر إلى الذهن العديد من الأسئلة، ومفادها: كيف تقرأ مقالاً أو بحثاً أو قصيدة أو كتاباً؟ هل تقرأ بيقظة وتركيز لتصل إلى ما يريد الكاتب قوله وتكوّن رأياً فيه؟ ماذا تفعل إذا اقتنعت بما تقرأه؟ هل تعمل أو تدعو إلى ما تراه حقاً وصواباً، حتى وإن كان يتعارض مع أفكار فتحت القراءة عينيك على بطلانها أو عدم جدواها؟ هل تقرأ وأنت لا تتعصب لفكرة خاصة؟ هل تفكر في ما تقرأه ولا تأخذه حجة مسلماً بها؟ هل تميّز ما تقرأه دون تحيّز وإصرار سابقين؟ هل تُحكّم العقل والمنطق؟ وأخيراً هل تؤمن بأن القراءة للعقل كالغذاء للجسم تماماً، وأنه بدون القراءة يتوقف نمونا الفكري والوجداني ونعيش جائعين يصيبنا الهُزال الفكري والنفسي ونفقد القوة التي تمكننا من الوصول إلى واقع أفضل؟

هل تقرأ لتستفيد مما تقرأه في انفتاح فكري، وتعديل سلوكك، وتعميق حياتك، وتهذيب أعماقك، أم أنك تقرأ لقطع الوقت والتسلية وإبعاد الملل عن نفسك، أو لاكتساب معرفة عاطلة؟ هل تقرأ لتكسب حياتك بعداً جديداً وترى ما يجب أن يكون، وأفضل الطرق إلى حياة أنضج وأفضل؟

القراءة أولى الوسائل وأجداها في مدنا بآخر ما وصل إليه الفكر البشري من إضافات فكرية وفلسفية وعلمية وفنية.. وما أحوجنا أن يكون كل هذا رافداً من روافد فكرنا، وغذاء لوجداننا ينضج حياتنا ويثريها ويكسبنا منهج تفكير سليماً وأسلوب حياة أفضل.

إن أولئك الذين يرفعهم الجشع إلى قراءة كل ما تقع عليه أنظارهم ولا يستوعبون الآراء والأفكار، بل يمرون على صفوف من الكلمات تخفي عنهم حقيقة العالم وحقيقة نفوسهم

القراءة تنمّي حواس الإنسان وتوقظ فكره وتحفّز تطلعاته إلى ما هو أعمق. فالقراءة ضرورة لازمة للحياة الراقية المتطورة.. إن من يسأل لماذا نقرأ كمن يسأل لماذا نأكل ونشرب.. إننا نقرأ لنحيا حياة النضج والتطور والتقدم، لننفتح على دنيانا ونستوعب أسرارها بقدر الإمكان، ونخرج من كهوف الجمود ونواجه الحياة مواجهة عاقلة ناضجة.

نقرأ ونهضم ونحوّل ما نقرأه إلى عصارة محيية تجعلنا نسير بقدمينا لا بقدمي غيرنا، ونرى بعينينا لا بعيني غيرنا، ونغسل أعماقنا من أدرانها. نقرأ ليكون لنا ولكل الناس من حولنا حياة أوفر وأفضل.. بدون القراءة والعمل بما نستوعبه يقضي الجوع الفكري على حواسنا الإنسانية وملكاتنا الكامنة، ولا نكون إلّا أفراداً يسيرون في قطيع. والقراءة فن يجب أن نتعلم أصوله وإلّا فإنها تكون عديمة الجدوى.

ليست القراءة اختزاناً جامداً لما نقرأ.. ليست إطلاقاً حشواً للرؤوس وليست حلية زائفة، سفسطة لسان.. وليست قتلاً للوقت وتزجية الفراغ، كما أنها ليست إعجاباً عابراً بما نقرأ ويقف بنا الأمر عند هذا الحد، وهي أيضاً ليست مجرد إدمان.

إن أولئك الذين يرفعهم الجشع إلى قراءة كل ما تقع عليه أنظارهم ولا يستوعبون الآراء والأفكار، بل يمرون على صفوف من الكلمات تخفي عنهم حقيقة العالم وحقيقة نفوسهم، كمدخن الأفيون لا يلتمس من وراء تدخينه إلّا الهرب من عالم الحقيقة إلى عالم الأوهام والأحلام.

لا يدرك الهدف الصحيح للقراءة من يقرأ لاكتساب معلومات تكون له حِلية يعرضها في المجالس حتى يمتدح الناس سعة اطلاعه وغزارة علمه.

عرفت رجلاً سمعت عن سعة اطلاعه وعكوفه على القراءة، ولما عاشرته وجدت عقله موسوعة متحركة، كانت تكون أجدى وأنفع لو أمكن وضعها على رف كمرجع كبير. لم يكن لكل ما قرأه واختزنه صاحبنا هذا أي أثر في حياته. وجدت قلبه كساحة حرب بعد معركة عاتية تناثرت فيها الأشلاء، ولم يكن الإنسان المثقف الذي توقعت أن ألقاه.. لم يتأثر سلوكه الذهني والإنساني بما قرأ واختزن. لا قيمة لكل ما نقرأ إن لم يكن الطريق إلى حياة متجددة متطورة، إن لم يتبلور ويتحوّل إلى عمل وأسلوب حياة، لا خير في قراءة لا تكسب فكرنا ووجداننا وكل حياتنا النضج والنمو والتجدد وصقل إمكانياتنا ومواهبنا وميولنا.

بالقراءة الواعية الهادفة لا تزداد الحياة وعياً ومعرفة فحسب، بل نزداد كذلك قدرة على تطوير أنفسنا ومجتمعنا.

القراءة المتعجلة لا تصلح أن تكون أداة تثقيف ونضج.. فالذي يقرأ ولا يهضم يضيع جهده ووقته عبثاً. كثيرون لا يمارسون إلّا هذه القراءة الخاطفة في كل ما يقرأون. لا يبذلون جهداً في التركيز والاستيعاب، بل يكتفون بالقليل الذي يقفز إلى رؤوسهم دون تأمّل وفحص.. إنّهم يقرأون وكفى، وتظل هذه عاداتهم في القراءة لا يكتسبون لحياتهم منها شيئاً.. ونسوا أنَّ القراءة للتثقيف والنضج ما هي إلّا دراسة حرّة ولذيذة لشيء له قيمته في بناء الفكر وانضاجه.

القراءة هي فن تطوير وإنضاج وتعميق الحياة.. والطريق إلى القراءة الواعية الجادة المجدية هو ما لخصه لنا عميد الأدب العربي طه حسين في قوله: "القارئ الذكي الواعي لا يقرأ بعقله وحده، ولا يقرأ بقلبه وحده، وإنما يقرأ بهما جميعا".

هكذا كان يقرأ أعظم رجال الفكر والأدب والعلم، ويرجع الفضل في أكثر ما حققوه وما بلغوه إلى أنهم كانوا قرّاء وأعيناً يعرفون لماذا وكيف يقرأون.

دلالات
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.