جدار الزنزانة وشنطة الزيارة

جدار الزنزانة وشنطة الزيارة

29 فبراير 2024
+ الخط -

استمرارًا في استعادة نصوص المعتقل، تلك التي كُتبت وهُرّبت من زنازينه، أو التي صُودِرت غير مرّة في حملات تفتيشهم التي لا تنتهي؛ أنشرها هنا لأسجّل شيئًا مما جرى ويجري للرفاق والرفيقات بالداخل حتى اليوم.

هذه المرّة عن الغياب، والفقد.. وأشياء أخرى.

-----

"علّه العمر لا السجن ما يجرّدكَ صحبتك مع كلّ خطوة" أقول لنفسي.

"عكس السجن، يبدلك العمر صحبةً بأخرى: يُلاقيكَ بقدر ما يسلبك" تردُّ عليَّ.

...

للغياب هنا تجلّيان: جدار الزنزانة وشنطة الزيارة.

قبل سنين، علّقتُ على جدار الزنزانة صورة كلّ غائبٍ جديد، كي لا يفلت منّي ومن الذاكرة.. ليحضر ولو توهّمًا. ازدحم الحائطُ، ولم تعُد لديّ صورٌ جديدة أضيفها؛ فأزلتُ الكلّ.

اعترفتُ أولاً، بأنّ الصور تُرسّخُ لاوجودهم واقعًا؛ إذ لو كانوا هنا (فعلاً)، ولو مرّة كلّ شهر، نصف ساعة في زيارة، نصف ورقة في رسالة... لو كانوا كذلك لما احتاجوا لجدار.

 يخلو جداري (في المعتقل) إلا من "حنظلة" موليًا ظهره كعادته المستفزّة.. وفراشةً مراوغة الحضور

حتى في المنع، مجرّد معرفة أنّهم حاولوا وأرادوا.. يبقيهم حاضرين، ولو حاشتهم القرارات. لزمني هذا الاعتراف لأتصالح مع غيابهم كحقيقةٍ تترسّخ.

الآن يخلو جداري إلا من "حنظلة" موليًا ظهره كعادته المستفزّة.. وفراشة مراوغة الحضور.

...

أمّا الشنطةُ:

فكان زميلٌ معتقلٌ، يختفي باكيًا مع اكتشافِ غياب كلّ صنفٍ معتادٍ من أصناف الزيارة. يخبره ذلك كيف يبهت حضوره في حيواتهم مع الوقت. جرت العادة السجنيّة على قياس "التساقط" (بشرًا وأشياء) بالشهور. لا أملك آسِفًا هكذا ترَف، لعلّي فعلتها، ولو كملاحظة ذهنيّة لا واعية في السنوات الثلاث الأولى. الآن لا يتّسع الذهن، تمامًا كما لم يتّسع الجدار من قبل، ولو لحسابها بالسنين؛ فينتهي بي الحال لتقسيمها "مرحليًّا": حلاوة البدايات، المشفى، الحكم، الانفصال، فقدان الدخل، كورونا...

لن يبغتك هذا الغياب دفعةً واحدة. صادمة صحيح، لكنّها تسمح بقضاء الوقت بعدها استيعابًا وتعافيًا وتجاوزًا، إنّما تلاشٍ تدريجيّ، وانطماسٍ خلف طبقات من العوادم الحياتيّة وغبار الانشغال ورطوبة الإنهاك الخانقة... إلى أن يتحوّل الآسر الزاهي (سابقًا)، إلى آخر ذابل منطفئ، ثم لا شيء، كأنّ لم يكن.

في الأولى: ستُعارِك السجّان على عدد الزائرين (الحضور أكثر من الحدّ الأقصى المسموح له كلّ مرّة)، ثمّ سيتمّ التنسيق بينهم (من سيأتي؟ ومتى؟)، ثمّ سيُعتذَرُ انشغالاً أو لطارئ، ويتوقّف الاحتفاء بما يخصّك، يختلط على من تبقّى ما تحبّ أو تفضّل، ثم يُنسى، سيزدادُ الانشغال ويتوقّف الاعتذار، سيصبح التواصل مناسباتيًّا وموسميًّا، ثمّ حين تطلب، وردًّا على ما تكتب، ثم لن يُصبح هنا على أيّة صورة (لن يكون أمامك سوى إفلات يدٍ سبق وأفلتتك قبل زمن).

يتحوّل الآسر الزاهي (سابقًا)، إلى آخر ذابل منطفيء، ثم لا شيء، كأنّ لم يكن

وفي الثانية: ستبذل جهدًا لإقناعهم بأنّ ما يُحضرون أكثر بكثير ممّا يمكن استهلاكه، خاصّة وأنت معزولٌ بمفردك. سيُتنافس على إحضار حاجياتك (لا الأساسيّة فهي فائضة ومدّخرَة) إنّما تلك الترَفِيَّهة: الشوكولاتة بلجيكية وسويسرية وطليانية، البنّ (ولو بإحضاره من محلّك المفضّل ببيروت كلّ مرّة). الجبن: متى وكيف توصّل العقل البشري لهذه الأصناف والألوان؟ العطر: تلك التي تخصّك، وأخرى لتجرّبها، وثالثة على ذائقة صاحبة. الأقلام والدفاتر: المقاس والسُّمك والقطع والخامة ونوع الحبر .. ، الساعات الخمس: تخترع مناسبات سجنيّة لارتدائها. كيكة الشوكولاتة من هنا، التشيز كيك من هناك، حتى الألبسة التي ظللت تُتَأتِئ وأنت تنطق أسماءها لزمن..

سيُشتكى ويُحتكم إليك: "لم أرسل منذ زيارتين، هذا دوري. أصرّ"؛ فتوزّع القبول كي لا يغضب أحدهم/ن.

ثم كساعة رمل: "تتسرّب" الحاجات (كما الصحب) واحدًا فواحدًا، إلى أن ينتهي بك الحال مع وجبة طعامٍ واحدةٍ مكرورة، أو أخرى جاهزة من أقرب مطعمٍ كما تصادف (كأنّها رسالة: ابقَ على قيد الحياة وكفى).

تمسّكك السابق بدلالات رمزيّة (تحايلك المتهافت)، سيتعرقل ثم يتهدّم تمامًا. لم يعد مكان لترف وسط هذا البؤس كلّه، لم تعد قدرة للإبقاء عليه (ليس مجّانيًّا على أيّة حال).

لم يعد مكان لترف وسط هذا البؤس كلّه، لم تعد قدرة للإبقاء عليه

لن تجرؤ على الشرح. لن تفلح في إيصال المغزى: هذه روابط هشّة، لكن أخيرة، تربطك بالحريّة، بالذي كنته خارج هنا. لا نكران لواقعٍ، إنّما لا استسلام له كقدرٍ أخير غير قابل للتغيّر والاستبدال.

...

ربّما ليس عادلاً الاكتفاء بالنظر من ركنك الذي انحشرت فيه قسرًا؛ لكونك لا ترى، لا ينفي وجود ما لا تراه.

لتستوعب (ولو تفهُّمًا مبدئيًّا) ما يجري خارج فقّاعتك الأسمنتيّة تلك الـ Pause الذي أنت عليه، لم يطل حيوات الآخرين. توقّف دنياك لا يعني توقّف الدنيا.

لم تترك ما تستند إليه في زلزلةٍ كتلك: لم تدّخر مالاً ولا أصدقاء.

لتُلقِ باللائمة على مرتكب الفعلة، لا على شركائك في تبعاتها (ولو تباينت صور ذلك).

لو أنّك "المستقبِل" لا تحتمل، فكيف بهم؟

ثم أنت لا تعرف ما جرى لهم ولحيواتهم، ولا أي حالٍ هم عليه الآن (مشاعر، قدرة، ولا حتى تموضعًا منك، ومن الحكاية التي حولها اجتمعتم قديمًا).

أليس الاحتياج، والوحدة، والسقوط (تحت ثِقَلٍ كهذا) إنسانيٌّ جدًا حين يحدث؟

بل لا تعرفُ (حتى) لو أنّهم ما زالوا الأشخاص ذاتهم الذين سبق وعرفت.

تدافع عن أنسنة كلّ مساحةٍ ثم تطلب وجودًا آليًّا خارقًا ولا إنسانيًّا؛ ليلبّي حاجاتك ويمنعك عن السقوط؟ أليس الاحتياج، والوحدة، والسقوط (تحت ثِقَلٍ كهذا) إنسانيٌّ جدًا حين يحدث؟ بل ربّما أشدّ إنسانيّة من المقاومة التي تتلبّس قناعها اضطرارًا؟

...

على كلٍّ؛ ليس على السجين أن يفكّر في أشياء كهذه حين يُلقي الليل ثقله على روحه. يكفيه ما به. ربّما عليك أن تُطفئ الضوء وتفكّر في أشياء حلوة، قبل أن يبدأ ماراثون اللهاث نحو النوم.

- لكنّ الضوء لا ينطفئ هنا.

- اتصرّف بقا؛ ما تقرفناش.