ثورة ابن هود... الفصل ما قبل الأخير في سقوط الأندلس

01 مايو 2022
+ الخط -

الإرهاصات الأولى لمأساة الأندلس

في السابع عشر من يوليو/ تموز عام 1212م، وقعت أكثر المعارك الحاسمة والفاصلة في تاريخ شبه الجزيرة الإيْبِيرِيّة، وهي معركة العقاب، بين معسكر الموحدين وتحالف صليبي تمكن بقيادة ألفونسو الثامن ملك مملكة قشتالة من اختراق صفوف الموحدين التي قدرت وقتها ما بين 300 ألف إلى نصف مليون مقاتل بقيادة سلطان الناصر، وهزيمتهم شر هزيمة، ففر على أثرها السلطان الناصر مكرهاً بعد أن رأى بأم عينه هزيمة جيوشه الجرارة نحو إشبيلية، ومن ثم إلى عدوة المغرب.

ولم يمض عام على هزيمة العقاب النكراء حتى توفي السلطان الناصر ألماً وحزناً عام 1213م، وبوفاته بدأت مرحلة جديدة في تاريخ دولة الموحدين في المغرب والأندلس، سمتها انحدار دولة ودخولها في حالة من اضطرابات وفوضى عارمة، إذ خلفه في الحكم عدد من السلاطين الضعاف الذين لم يكونوا على مستوى الأحداث والتطورات الخطيرة في كل من المغرب والأندلس.

أولهم السلطان الموحدي أبو يعقوب يوسف المستنصر بالله الذي لم يكن كفؤاً لهذا المنصب، بل كان منغمساً في اللهو والترف مولعاً بتربية الأبقار والخيول، وترك إدارة شؤون الأندلس إلى ثلاثة من أعمامه، وهم أبو محمد عبد الله عادل الذي تولى (شرق الأندلس)، وأبو الحسن الذي تولى غرناطة (جنوب الأندلس)، وأبو العلاء إدريس الذي تولى قرطبة (وسط الأندلس)، وانتهى المطاف بهذا السلطان أن مات مقتولاً بعد أن هاجمته إحدى الأبقار بقرنيها في موضع القلب، فتوفي على إثر ذلك عام 1224م.

تولى الحكم من بعده عبد الواحد المخلوع، الذي لم يمض على حكمه سوى شهرين حتى ثار عليه أبو محمد عبد الله عادل (والي شرق الأندلس)، فخلعه وتولى مقاليد الحكم بدلاً منه، إلا أنه سقط قتيلاً بعد أربعة أعوام قضاها في وأد الفتن والاضطرابات التي ضربت ربوع دولة الموحدين في عام 1227م، فأعقبه أخوه أبو العلاء إدريس والي قرطبة الذي لقب بالمأمون، فاستبد بأمور الحكم والدولة، وأعدم عدداً من كبار قادة الموحدين ومشايخهم، وسمح بسابقة تعتبر الأولى من نوعها لجماعة من مسيحيي قشتالية ببناء أول كنيسة في مراكش.

ثورة ابن هود

وأمام هذه التطورات التي تعصف بدولة الموحدين، سرت روح السخط والغضب وعدم الرضى بين قبائل المغرب وقادة الموحدين، فاشتعلت نيران الثورة في المغرب ضد المأمون، خاصة بعد السماح ببناء كنيسة للقشتاليين في مراكش، وعلى أثرها وتباعاً دخلت الأندلس هي كذلك في حالة من فوضى عارمة ساهمت بشكل أو بآخر في ضعف سيطرة الموحدين على الأندلس شيئاً فشيئاً.

لم يمض وقت طويل على سقوط قرطبة حتى توفي سلطان الأندلس الأخير ابن هود في عام 1237م بمدينة ألمرية (شرق الأندلس) دون أن يستطيع فك الحصار عن بلنسية

وفي أتون هذه الفوضى، ظهر في منطقة يطلق عليها الاصخيرات في شرق الأندلس قريب مدينة مرسية أمير من سلالة بني هود يسمى (محمد بن يوسف بن هود) وهو من أحفاد بني هود الذين حكموا سرقسطة إبان حكم ملوك الطوائف سابقاً، فأعلن ثورته ضد الموحدين في الأندلس عام 1227م، وأمام استفحال ثورة ابن هود قام والي مرسية بمحاولة للقضاء على ثورته، إلا أنه هزم، فلاحقه بابن هود حتى مرسية واستولى عليها، وعلى أثر سقوط مرسية زحف والي شاطبة، إحدى مدن شرق الأندلس، لوأد ثورة ابن هود، إلا أنه هزم هو الآخر، فسارع للاستنجاد بالسلطان المأمون الذي تمكن من هزيمة ابن هود ولاحقه حتى حاصر حاضرته مرسية، إلا أن الحصار فشل لمنعة المدينة.

وحتى يستميل ابن هود الأندلسيين حوله دعاهم إلى وجوب العمل على تحرير الأندلس من نيران الموحدين والنصارى معاً، لا سيما بعد أن تحالف السلطان المأمون مع قشتاليين، وتنازل لهم عن عدد من الحصون والأراضي الأندلسية، فاندفع الأندلسيون الحانقون على الموحدين إلى الانضواء تحت لوائه، وحتى يحصل على الشرعية التي تمكنه من دعم حركته، دعا للخليفة العباسي المنصور المستنصر بالله على منابر الأندلس، بل راسل الخليفة العباسي في بغداد وأعلن تبعية الأندلس للعباسيين، وبدوره بعث الخليفة بالخلع، كموافقة على تبعية ابن هود الذي لقب نفسه بـ(المتوكل).

وهنا سارعت المدن الأندلس وحواضرها إلى الدخول في طاعة ابن هود كقرطبة (وسط الأندلس) وبطليوس (غرب الأندلس)، ثم استطاع أن يستولي على غرناطة (جنوب الأندلس) في عام 1231م، وعلى أثر ثورة ابن هود بدأ الموحدون بالانسحاب من الأندلس إلى المغرب بعد خروج أغلب حواضر الأندلس عليهم، كان آخرها إشبيلية حاضرة الموحدين والجزيرة الخضراء بوابة الأندلس الجنوبية اللتين سقطتا بيد ابن هود.

وعلى الرغم من سيطرة ابن هود على القسم الأكبر من الأندلس، إلا أنه لم يهنأ بذلك، إذ سرعان ما بدأت تسقط مدن الأندلس تباعاً بيد القشتاليين، كماردة وبطليوس، وكذلك تفجر في وجهه عدد من الثورات من الأندلسيين أنفسهم، على رأسهم ابن مردنيش الذي كان في وقت سابق قد ثار على ابن هود في شرق الأندلس، واستولى على مدينة بلنسية من واليها الموحدي الذي يدعى أبا زيد، الذي فر بدوره إلى ملك أراغون خايمي الأول، وعقد معه معاهدة يتعهد فيها بأن يسلمه ما بيده من حصون، بل وصل الأمر بهذا الفار إلى الارتداد عن الإسلام واعتناق المسيحية.

في الوقت نفسه الذي كان فيه ابن هود يحشد الحشود للوقوف أمام تطلعات ابن مردنيش الانفصالية، وتقدم القشتاليين واستيلائهم على عدد من المدن والحصون الأندلسية، ظهر على مسرح الأحداث منافس وثائر جديد هو محمد بن يوسف بن نصر، المعروف بابن الأحمر، مؤسس مملكة غرناطة التي ستكون في وقت لاحق الملاذ الوحيد والأخير للأندلسيين، وسرعان ما عمّت ثورته أرجاء جنوب الأندلس، وقد استولى على غرناطة وملقا ووادي آش وقرمونة والجزيرة الخضراء.

هنا شعر ابن هود بخطر ثورة ابن الأحمر، فتحرك للقضاء عليها، إلا أنه هزم في أول مواجهة معه في معركة وقعت بينهم بالقرب من إشبيلية عام 1234م، وبعد ذلك مال الطرفان إلى الصلح بعدما أدركا حجم الخطر الذي يمثله القشتاليون على الأندلس، فتفاهما على أن يدين ابن الأحمر بالطاعة لابن هود، وفي المقابل يقر ابن هود لابن الأحمر على ما استولى عليه من مدن وحصون في جنوب الأندلس.

سقوط حواضر الأندلس

في ظل الثورات والفوضى التي ضربت ربوع الأندلس وانسحاب الموحدين بعد هزائمهم المتلاحقة، كانت الممالك المسيحية، وعلى رأسها مملكة قشتالة، تراقب الوضع عن كثب، وتسير بخطى ثابتة للاستحواذ على الحواضر والمدن والحصون، إذ تحرك ملك قشتالة فرديناند الثالث لقضم ما يتيسر له من الأندلس، فتصدى له ابن هود على ضفاف نهر وادي لكة في عام 1234م، إلا أن ابن هود هزم هزيمة نكراء على رغم من التفوق العددي لقواته.

فتحت هذه الهزيمة الطريق أمام القشتاليين لحصار مدينة قرطبة (وسط الأندلس) وتطويقها، فاستغاث أهلها بابن هود لِنجدة مدينتهم بحكم أنها تدين بالطاعة له، وهو سيدها الشرعي، إلا أن هود لما علم بتفوق الجيش القشتالي أعرض عنها، وتوجه نحو مدينة بلنسية لمساعدة خصمه ابن مردنيش في فك حصار خايمي الأول ملك أرغون عليها، وأمام تخلي ابن هود عن قرطبة ضاق الحال بأهلها، فأجبروا مكرهين على تسليم مدينتهم للقشتاليين في 29 يونيو/ حزيران عام 1236م، ولم يمض وقت طويل على سقوط قرطبة حتى توفي سلطان الأندلس الأخير ابن هود في عام 1237م بمدينة ألمرية (شرق الأندلس) من دون أن يستطيع فك الحصار عن بلنسية.

وأمام عدم وجود قيادة أندلسية حكيمة قادرة على أن تحل محل ابن هود والوقوف أمام أطماع القشتاليين والأراغونيين سقطت مدن الأندلس تبعاً واحدة تلو الأخرى، إذ ستولى الأراغونيون على بلنسية عام 1238م، بعد مقاومة شرسة ثم شاطبة، ولحقت بها مدينة مرسية آخر معاقل شرقي الأندلس التي سقطت بيد القشتاليين عام 1243م، أما عن ابن الأحمر الذي حوصرت مدينته وعاصمته غرناطة في عام 1244م فقدم فروض الطاعة والولاء للقشتاليين مكرهاً، بل وصل به الأمر للمشاركة وتقديم الدعم للقشتاليين من جند وعدة في حصارهم لإشبيلية التي سقطت عام 1248م، وهكذا ضحى ابن الأحمر بإشبيلية واستقلاله السياسي مقابل أن يحفظ ثغره اليتيم، وهو مملكته الصغيرة والضعيفة في جنوب الأندلس من مصير باقي حواضر الأندلس.

وقد ضربت هذه التطورات الأخيرة والأحداث المأساوية المجتمع الأندلسي في مقتل، فكان كلما سقطت إحدى الحواضر والمدن والحصون نزح أهلها من المثقفين والأرستقراطيين وأهل الصناعات والحرف إلى مملكة غرناطة، وبعضهم الآخر نزح نحو عدوة المغرب كتونس والجزائر والمغرب، أما عوام الأندلسيين وفقراؤهم الذين سموا فيما بعد بـ(المدجنين) فآثروا البقاء تحت نيران حكم القشتالي والأراغوني وأصبحوا أقلية مستعبدة في بلادهم. وقد حاول "المدجنون" الحفاظ على دينهم وعاداتهم وتقاليدهم الإسلامية في ظروف صعبة، وضعفت مع مرور الأعوام لغتهم العربية حتى أصبحوا فيما بعد يكتبون كتاباتهم ورسائلهم باللغة القشتالية أو الكتلانية أو الأراغونية.

4F8E0C37-3F8E-44E8-B648-FE320CF4039B
هيثم الجرو

مدون وقاص فلسطيني حاصل على شهادة في التاريخ والآثار من الجامعة الإسلامية بغزة، يحضّر رسالة الماجستير في التاريخ المعاصر بجامعة "إسطنبول مدينيت" في تركيا.