ثمن البطولة الفادح (1 من 2)

06 ديسمبر 2020
+ الخط -

ما الذي يدفع نظام عبد الفتاح السيسي الذي يحكم سيطرته على مقاليد البلاد ورقاب العباد، لأن يفتعل أزمة سياسية لم يكن في حاجة إليها، حين قرر القبض على كل من جاسر عبد الرازق وكريم مدحت عنارة ومحمد بشير العاملين بمنظمة "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، ليجلب لنفسه الكثير من الاحتجاجات الدولية رفيعة المستوى التي اضطرته إلى الإفراج عنهم قبل أيام من زيارة السيسي المهمة إلى فرنسا، والتي يعتمد عليها النظام كثيراً في رسم خريطة تحالفاته الدولية القادمة في عالم ما بعد دونالد ترامب؟

ما الذي يجعل ضابطاً عكر المزاج منحط الطباع لأن يصر على حلق شعر جاسر عبد الرازق فور القبض عليه، ويقوم بإبقائه في الحبس الانفرادي دون منحه بطانية تدفئه من برد الشتاء في انتهاك واضح لأبسط قواعد الحبس الاحتياطي، وما الذي يجعل زملاءه القائمين على تشغيل الأذرع الإعلامية لاتهام جاسر ورفاقه بالإرهاب وإحالتهم إلى قضية تتهمهم بالعمل على مساندة جماعة إرهابية، مع أن أي تفكير شبه عاقل كان يجب أن يدرك أن هذا التصرفات الرعناء لن تمر بهدوء وستثير الكثير من ردود الأفعال الغاضبة من شخصيات دولية تعرف قدر جاسر عبد الرازق، وتدرك أهمية "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" التي تعمل منذ 18 عاماً في مصر ويمتلك العاملون فيها سمعة حسنة وعلاقات دولية جيدة؟

ما الذي يدعو قبل ذلك وبعد ذلك قوات الأمن لإلقاء القبض بشكل غير قانوني على الناشط السياسي تلو الآخر، وإخفائهم لأيام أو لأسابيع دون العرض على النيابة ليعيش أهلهم وأحبابهم ليالٍ سوداء من القلق عليهم والخوف من أن يلقوا مصير آخرين اختفوا ولم يظهر لهم أثر

ما الذي يدعو قبل ذلك وبعد ذلك قوات الأمن لإلقاء القبض بشكل غير قانوني على الناشط السياسي تلو الآخر، وإخفائهم لأيام أو لأسابيع دون العرض على النيابة ليعيش أهلهم وأحبابهم ليالٍ سوداء من القلق عليهم والخوف من أن يلقوا مصير آخرين اختفوا ولم يظهر لهم أثر، مع أنه يمكن أن يقوم بالقبض عليهم وتحويلهم إلى القضاء دون حاجة إلى كل تلك الممارسات المفزعة والمنحطة؟

بالتأكيد صادفتك مثل هذه الأسئلة الحائرة كثيراً في الفترة الماضية خلال تصفحك لما يكتبه على مواقع التواصل الاجتماعي بعض أصدقائك المهتمين بالشأن الداخلي والمكتوين بناره، وربما دفعك الضيق والأسى إلى اعتبارها أسئلة بريئة إلى حد السذاجة، لأنها تنسى أن كل هذه التصرفات الأمنية لم تحدث بشكل عشوائي أو اعتباطي، بل كانت تهدف طبقاً لتصور القائمين على الملف الأمني إلى تأكيد مشاعر الردع والترويع التي يعلم ضباط الأجهزة الأمنية الدارسون في "بلاد برّه" أهميتها لاستمرار السيطرة والشكم، ولدفع كل من يفكر في التحرك لعمل شيء ما أياً كانت محدوديته إلى أن يفكر ألف مرة قبل أن يتحرك، وهو ما لن يتحقق إلا بتوسيع دائرة الخوف لتشمل الذين يفكرون في الاعتراض أو التظلم أو حتى البرطمة.

أنت تعلم كل ذلك، وربما كان كثير من الذين يسألون تلك الأسئلة يعلمونه أيضاً، لكنهم يستخدمون الأسئلة كوسيلة للاستنكار لا الاستفهام، لكن المؤكد أن هناك من لا يزال يسأل مثل تلك الأسئلة بجد، لأنه لا زال محكوماً بالخيال السياسي للفترة المباركية التي سادت قواعدها ثلاثة عقود من الزمان، فأصبح الكثيرون لا يستطيعون قراءة ما يحدث الآن خارجها، خاصة وقد شاع بين الناس خطأ أنّ نظام السيسي يمثل عودة بالزمان إلى الوراء، مع أنّ كل الشواهد تؤكد أن نظام السيسي قفز إلى الأمام قفزات غير مسبوقة في مجال القمع، ستذهل عبد الناصر والسادات ورجالهما لو عرفوا بها، وسيتحسرون على الفرص التي أضاعوها لحسم سيطرتهم على السلطة، حيث لم يقم أحدهما بارتكاب مذبحة جماعية يسقط فيها المئات من المواطنين، ثم يتم الاحتفال شعبياً وإعلامياً بوقوع تلك المذبحة، ولا يتم عقاب أحد من الذين تورطوا فيها، بل وتتم محاكمة الذين نجوا من القتل في ذلك اليوم، وتصدر عليهم أحكام مشددة، وحين يرد اسم (ميدان رابعة العدوية) الذي وقعت فيه المذبحة، ينفعل رئيس الدولة ويطلب من الضابط الذي قام بذكر اسم الميدان أمامه أن ينطق الاسم الجديد المعتمد رسمياً للميدان "ميدان الشهيد هشام بركات"، وحين يقوم أحد بالتنبيه إلى فداحة ما جرى في تلك المذبحة المؤسسة لكل ما جرى بعدها من قمع في مصر، يتم اتهامه من قطاعات كبيرة شعبياً بعضها من المعارضين لسياسات السيسي بأنه من أعضاء جماعة الإخوان أو من المتعاطفين مع الإخوان.

وهو ما يوصلنا إلى سؤال أكثر أهمية وأكثر جلباً للضيق والأسى من كل الأسئلة السابقة:

هل يمكن فصل كل ما جرى ويجري في مصر عن لحظة المذبحة التي جرت في ميدان رابعة العدوية في 2013؟

يعتقد الكثيرون أن ذلك ممكن وضروري ومهم، وبعضهم لا يفعل ذلك رغبة في التواطؤ مع نظام السيسي، بل لأنهم يدركون أنّ فتح ملف المذبحة أمر لا يحتمله الواقع الأليم في مصر، والذي صار الكثيرون فيه يبحثون عن ملاذ آمن لالتقاط الأنفاس ومداواة الجراح، لكنهم ينسون أنّ من ارتكب المذبحة لا يمكن أن ينساها، حتى وإن نسيها بعض الذين اكتووا بنارها، ولذلك لا يمكن أن يسمح لمعارضيه بلحظة هدنة واسعة، ربما استغلوها لتنظيم صفوفهم والتفكير في وسائل بديلة لمهاجمته، ومهما حلفت له أن أغلب ضحاياه ليسوا مشغولين بما هو أكثر من البقاء على قيد الحياة وبأقل خسائر ممكنة، لن يصدقك، لأنه رأى بأم عينيه خطورة فتح منافذ التنفس والتنفيس، التي ظنها النظام السابق له وسيلة للتسلية، وحين أدرك خطورتها، كان الوقت قد فات.

سيتأكد لك كلامي، لو كنت قد تابعت ردود أفعال بعض عتاة السيساوية الذين لا يفارقون مواقع التواصل الاجتماعي ويعتبرهم نظام السيسي جزءاً من أذرعه الإعلامية الممولة والموجّهة من ضباط أجهزته، وسيلفت انتباهك أنهم حرصوا خلال الفترة التي أعقبت حبس قيادات المبادرة على الإشارة إلى التقرير الموثق والمفصل الذي أصدرته المبادرة عن مذبحة رابعة، واعتبروه تأكيداً على كون المبادرة ذراعاً إخوانياً وجزءاً من الخلايا الإخوانية النائمة والطابور الخامس المتواطئ مع المؤامرة الدولية على مصر، مع أن ذلك التقرير لم يعجب الكثير من قيادات وقواعد الإخوان لأنه أشار بوضوح إلى وقائع التحريض والعنف الطائفي التي ارتكبها أنصار الإخوان في تلك الفترة المؤلمة.

لكن ذلك لم يشفع لمسؤولي المبادرة ولم يعفهم من اتهامات السيساوية التي ينسقها ويشرف عليها ضباطه الأشاوس، لأن مجرد التفكير في ترديد رواية تختلف عن الرواية الرسمية لنظام السيسي يعتبر جريمة لا يمكن غفرانها، ولا يعني التأخر في معاقبة مرتكبي هذه الجريمة الشنعاء أن نظام السيسي تسامح معهم، ربما لم يكن الوقت ملائماً من قبل، لكنه بدا مناسباً حين احتاج النظام إلى إظهار تماسكه ـ أو إخفاء تخبيط رُكَبه ـ بعد فوز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة، أو ربما لأنه تصور أنه بحاجة إلى صيد ثمين يمكنه من التفاوض مع سيد البيت الأبيض الجديد، فلم يجد من هو أثمن ولا أفضل من بعض قيادات المبادرة التي تحظى بتقدير دولي لعملها الحقوقي المستمر والدؤوب، وربما لذلك لم تكن صدفة أن يتم إلقاء القبض على الباحث النابه كريم مدحت عنارة أبرز المتخصصين في ملف العدالة الجنائية والمهتم بقضايا (العدالة الانتقالية)، تلك العبارة التي يثير ذكرها الرعب والتقزز لدى ضباط النظام الذين لا يفضلون سوى شكل وحيد للعدالة، هو العدالة التي يتم إنفاذها بقوة السلاح وعبر المكالمات الهاتفية مع القضاة ورؤساء النيابة.

بالطبع لم يكن النظام يتصور أن حملة التضامن مع المعتقلين الثلاثة ستصل إلى المدى الذي وصلت إليه، مع أنه كان قد وجد تضامناً شبيهاً حين قام من قبل باعتقال مؤسس المبادرة الصحافي المتميز حسام بهجت؛ بسبب بعض ما كتبه في موقع "مدى مصر"، فلماذا إذن قام باتخاذ إجراءات غشيمة كهذه تدل على غياب كامل للقدرة على المناورة السياسية التي يحتاجها النظام في فترة عصيبة كهذه، بدلاً من أن يتوسع في الإفراج عن المعتقلين السياسيين ليثبت حسن نيته ورغبته في فتح صفحة جديدة؟

يسأل البعض هذا ببراءة أو برغبة في إنكار الواقع، وينسون أن رأس النظام اكتسب شرعيته الشعبية لدى قطاعات واسعة من مؤيديه، بوصفه بطلاً عسكرياً "مالوش في السياسة ولا دراسات الجدوى"، وهو ما تفاخر به السيسي في أكثر من مناسبة، ولم يكن يمكن لمذبحة رابعة ولا لكل ما سبقها أو تلاها من إجراءات قمعية غير مسبوقة في تاريخ مصر أن تمر لو لم يكن السيسي يتعامل مع نفسه ويتعامل معه أنصاره بوصفه بطلاً أنقذ مصر وفوضه شعبها لكي يقضي على أعدائها الفعليين والمحتملين، وربما كانت هذه المرة الأولى في تاريخ مصر الحديث الذي يطلب فيه زعيم أو رئيس من الشعب أن يفوضه للقضاء على "إرهاب محتمل" فضلاً عن الإرهاب القائم بالفعل، ولم يجد ملايين المفوضين والمؤيدين وبينهم كثيرون ممن شاركوا في ثورة يناير وآمنوا بها مشكلة في ذلك، وإذا كان البعض يميل الآن إلى القفز فوق هذه المرحلة وتناسيها، إدراكاً منهم لخطورة فتح ملفها، فالسيسي نفسه لا يكف عن تذكير الجميع بها في خطاباته وتصريحاته، وحين تتضاعف مآزقه وأزماته سيتضاعف لجوؤه للتذكير بهذه الحقيقة المرة والمؤلمة.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.