تناتيش ونغابيش

13 ديسمبر 2020
+ الخط -

خاف النجم الكبير حين رأى أن بساط الفيلم يُسحب من تحته لمصلحة ممثل كوميدي يلعب دوراً ثانوياً معه، فقرر إيقاف تصوير الفيلم رغماً عن المخرج، مستغلاً حداثة عهده بالإخراج وقرر إعادة كتابة النصف الثاني من الفيلم ليضمن تقليل حجم تواجد الممثل الكوميدي، وليؤكد بطولته وسيطرته الكاملة على الفيلم.

لعلك تعرف ما الذي يمكن أن يقال على مواقع التواصل الاجتماعي لو نُشرت هذه الواقعة منسوبة إلى نجم من بتوع اليومين دول، وكيف كنت ستجد في كل ركن منها ترحماً على زمن الفن الجميل ولعناً لسنسفيل زمن الفن الرديء الذي نعيشه، لكن لعلك لا تعرف أن النجم الذي تحدثت عنه هو الفنان العظيم نجيب الريحاني، وأن الواقعة حدثت في فيلم (سي عمر) الذي أخرجه نيازي مصطفى، وكان ضحيتها الممثل البديع عبد الفتاح القصري، وهي ليست واقعة سرية يُكشف عنها الستار لأول مرة، وقد سبق نشرها في أكثر من موضع وفي حياة نيازي مصطفى وعدد من العاملين في فيلم (سي عمر)، ولم يقم أحد بتكذيبها، لكنها لقيت حتفها، مع علوّ وسيادة نغمة زمن الفن الجميل التي ترى في نشر مثل هذه الوقائع تشويهاً لفناني مصر الكبار الذين نعرف جميعاً أنهم بشر يصيبون ويخطئون، لكننا نحتاج إلى أن نرى دائماً صورتهم ناصعة البياض وخالية من الأخطاء البشرية، لكي نستطيع جلد فناني زماننا ولعن سنسفيلهم براحتنا.

ستجد تفصيلاً موثقاً للواقعة في كتاب (سينما نيازي مصطفى) الذي أنجزه المؤرخ السينمائي محمد عبد الفتاح منذ سنوات عديدة، والذي تحدث فيه عن علاقة نجيب الريحاني ونيازي مصطفى، التي بدأت حين عرض أحمد سالم مدير استديو مصر على نيازي مصطفى فرصة إخراج فيلم لنجيب الريحاني هو (سلامة في خير)، والذي كان أول فيلم ينجح جماهيرياً للريحاني، بعد تعثر لتجاربه السينمائية السابقة بشكل أدهش الكثيرين الذين يعرفون جماهيرية الريحاني الساحقة في المسرح.

لم تكن العلاقة بين نيازي والريحاني حميمة في بداية عملهما على فيلم (سلامة في خير)، وهو ما يرجعه معاصرو الفترة إلى ثقة كل منهما بنفسه واعتداده بها، وخوف الريحاني من خوض التجربة مع مخرج صغير السن لم يكن يثق فيه برغم دراسته السينما خارج مصر، لكن نيازي مصطفى أثبت قدراته للريحاني وشجعه نجاح (سلامة في خير) على خوض التجربة ثانية في فيلم (سي عمر)، لكن العلاقات عادت للتوتر مما هدد الفيلم بالتوقف، وكاد ألا يرى النور برغم تصوير عدد كبير من مشاهده، ليلعب مسئولو استديو مصر دوراً كبيراً في تصفية الخلافات، وبعد سلسلة من المساومات والوعود رضخ نيازي مصطفى كموظف في الاستديو لمطالب الريحاني، الذي أعاد صياغة النصف الثاني من الفيلم بالكامل.  

في حوار له مع الناقد والصحفي سامي السلاموني نشر في مجلة الإذاعة والتلفزيون بتاريخ 29 نوفمبر 1977 قال نيازي مصطفى إنه مسؤول عن سيناريو النصف الأول من (سي عمر) فقط، وأن النصف الثاني أعاد كتابته الريحاني لكي يقلص دور عبد الفتاح القصري، بعد أن أدرك أن القصري الذي لعب دور (ساطور) سرق منه الكاميرا في كثير من المواقف التي كتبها نيازي مصطفى، والتي كان ساطور هو المحرك لأحداثها، ولذلك في حين كان النصف الأول من الفيلم شديد الحيوية والتنوع، تحول الفيلم في نصفه الثاني إلى فصل مسرحي لا تخرج فيه الكاميرا من حجرات القصر، بعيداً عن حضور القصري/ ساطور الذي كان ينتزع الضحكات من كل من يراه في التصوير، ومع أنني من عشاق فيلم (سي عمر) بحالته التي ظهر بها ولا أملّ مشاهدته مراراً وتكراراً، إلا أنني أتفق مع محمد عبد الفتاح في رأيه أن سي عمر كان يمكن أن يكون أفضل لو أطلقت يد نيازي مصطفى في السيناريو وسار بانطلاقاته الأولى، وأن ما فعله نجيب الريحاني في سيناريو سي عمر كان من إرهاصات ميلاد أفلام البطل الأوحد.

لم يعمل نيازي مصطفى مع الريحاني ثانية، فخسرنا تعاوناً كان يمكن أن يقدم أعمالاً رائعة، وابتعد الريحاني عن شاشة السينما وركز على معشوقه المسرح الذي يتمكن فيه من تنفيذ رؤيته الفنية من الألف إلى الياء، واستمر هذا الابتعاد لسنوات، ربما لأنه كان يبحث عن مخرج يقبل التعاون معه بشكل كامل وينفذ رؤيته الفنية بحذافيرها، فوجد ضالته في المخرج ولي الدين سامح الذي تعاون معه في أفلام (لعبة الست ـ أحمر شفايف ـ أبو حلموس)، وسنلاحظ أن أكثر اللحظات إشراقاً في هذه الأفلام هي التي يفسح فيها الريحاني الفرصة لممثلين وممثلات إلى جواره لكي يشاركوه الإبداع والتوهج، ليصل إلى ذروة إبداعه في فيلم ترك نفسه فيه لإدارة أنور وجدي.

لم يعمل نيازي مصطفى مع الريحاني ثانية، فخسرنا تعاوناً كان يمكن أن يقدم أعمالاً رائعة

 

يمكن أن نلاحظ أنه برغم تألق تحية كاريوكا إلى جوار الريحاني في (لعبة الست)، لم يتعاون معها ثانية، وأنه لم يكرر تعاونه مع عبد الفتاح القصري سينمائياً إلا في دور صغير ومحكوم في رائعة (لعبة الست)، لكن القصري ظل برغم ذلك عضواً بارزاً في فرقة الريحاني المسرحية، وظل حتى آخر لحظة من حياته يشكر الظروف التي أحسنت إليه حين عمل مع أستاذه الريحاني الذي لا نملك حين نتذكر هذه الواقعة إلا أن نتذكر بيتاً شعرياً رائعاً كتبه أبو الطيب المتنبي أحد العظماء الخطّائين:

ولم أر في عيوب الناس شيئاً

كنقص القادرين على التمامِ".

...

قرأت قبل أيام تدوينة بلهاء، قرر كاتبها ألا يكتفي بالمزايدة على الأحياء من الكتاب والفنانين، وقام بتوسيع نشاطه لكي يقوم بالمزايدة على الراحلين منهم، مركزاً على الأستاذ نجيب محفوظ الذي اتهمه بنفاق السلطة والتزلف لها، وهو كلام سبق أن رد عليه الكثيرون، وعلى رأسهم نجيب محفوظ نفسه في حواره البديع مع الأستاذ رجاء النقاش، والذي أنصحك ألا تفوّت قراءته إذا كنت مهتماً بهذا الموضوع، بالإضافة إلى كتاب محمد شعير المهم والممتع (سيرة أولاد حارتنا)، وحتى تفعل، سأهديك على سبيل التصبيرة هذه الحكاية التي يرويها الدكتور محمود الشنواني في كتابه (ثلاثون عاماً في صحبة نجيب محفوظ) عن واقعة كان شاهداً عليها بنفسه تقدم جانباً من علاقة نجيب محفوظ بالسلطة:  

"في أحد أيام ربما عام 2002 أو 2003 دخلت إلى القاعة سيدة شديدة التأنق:

ـ مساء الخير يا نجيب بيه

ـ أهلا وسهلا.

ثم همس في أذني: "مين؟"

قدمت السيدة المتأنقة نفسها بعد أن جلست:

ـ أنا من طرف الهانم".

ـ هانم مين؟

رفعت حواجبها الرفيعة وقالت:

الهانم.. الست سوزان مبارك.

نقلت الإجابة للأستاذ فقال: "أهلا وسهلا".

ـ الهانم عايزاك تكتب مقدمة للكتاب ده".

ومدت يدها بكتاب (أظنه كان كتاباً عنها وعن دورها في مشروع مكتبة الأسرة).

نقلت للأستاذ:

"الهانم عايزة حضرتك تكتب مقدمة لكتاب".

صمت طويل.

ثم التفت الأستاذ لي:

"قل لها إني عمري ما كتبت مقدمة لكتاب، مش بأعرف أعمل الحكاية دي".

علت نظرة متجهمة وجه السيدة:

"لكن يا نجيب بيه الهانم هي اللي طالبة كده، مش معقول يعني حضرتك ما تقدرش تكتب مقدمة كتاب".

صمت طويل آخر.

"اعتذر لها يا محمود".

تجهمت السيدة أكثر:

"يا نجيب بيه، كلام الملوك لا يرد".

لا أدري هل سمعها أم لا، فقد كان صوتها أكثر ارتفاعاً هذه المرة.

وجدته يقول:

"هي الساعة كام؟".

"سبعة بالضبط يا استاذ نجيب".

"يبقى ميعاد السيجارة جه".

ارتشف رشفة قصيرة من فنجان القهوة وأشعل السيجارة وسحب نفساً عميقاً ثم أطلق دخانه في الهواء وانطلق بصره بعيداً كما يحدث مع رشفة القهوة والسيجارة".

يبقى فقط أن أضيف أنك ستجد أهم وأقوى وأصدق ما كتبه نجيب محفوظ عن السلطة والسياسة داخل رواياته التي أتعب بها من بعده، عليه ألف رحمة ونور. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.